بعد مرور سبع عشرة سنة على التنصيص الدستوري على المجلس الاقتصادي والاجتماعي، برز الحديث من جديد عن هذا المجلس كهيئة دستورية استشارية وتشاورية مهمتها الأساسية تقديم الرأي والمشورة حول الملفين الاجتماعي والاقتصادي، خصوصا وأن المغرب أمامه انتظارات متعددة جدا، إن على الصعيد الداخلي أو الخارجي. والواقع أن هذه المؤسسة الاستشارية لم تكن وليدة اليوم بل انبثقت مع عقد التسعينيات، حيث أقدم المغرب آنذاك على تدشين تحول نوعي في مساره بفعل التحولات الدولية والمتغيرات الوطنية، فقد أرخ هذا العقد لبداية تسريع وتيرة العمل الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب بفعل بروز تحولات دولية ومتغيرات وطنية تجسد أولها في انهيار نظام الثنائية القطبية وبروز الإرهاصات الأولية لنظام العولمة مع ما يحمله من تحرير للأسعار والرسوم الجمركية... كما أرخت هذه المرحلة لبداية الحديث عن العمل الاستشاري بالدولة الناشئة في الديمقراطية بفعل التدخلات الملحوظة لصندوق النقد الدولي وبنك الإنماء الدولي، مما حتم على الدولة خلق مؤسسات استشارية تبلور الديمقراطية التشاركية. لقد جسد المجلس الوطني للشباب والمستقبل بالمغرب بموجب ظهير 190-90-1 بداية الإرهاصات الأولية لهذا التوجه، حيث برز كفضاء للتشاور بين مختلف الفرقاء الاجتماعيين ليضم بين طياته أعضاء من الحكومة والبرلمان وعمال الأقاليم وممثلين عن الغرف المهنية، بيد أن هذه التعددية لم تكن حمدا على هذا المجلس بقدر ما أعاقته لأنها شملت خليطا غير متجانس، وهو الأمر الذي ينبغي التنبيه إليه في خلق المجلس الاقتصادي والاجتماعي، خصوصا وأن التوجه اليوم يهدف إلى توسعة وعاء المشاركة السياسية داخل هذا المجلس والحفاظ على التوازنات السوسيومهنية داخل المجتمع. وقد تم التنصيص الدستوري على هذا المجلس الاقتصادي والاجتماعي مع المراجعة الدستورية لصيف 1992، بيد أنه لم يتم تفعيله مع هذه المراجعة رغم فتح عدة أوراش تنموية شهدها مغرب التسعينيات، حيث بقيت المسألة الاجتماعية معلقة ليتكرس حضور هذا المجلس مع الدستور المعدل لسنة 1996، حينما أفرد له المشرع المغربي بابا خاصا في صلب الدستور ألا وهو الباب التاسع والذي أتى متضمنا فصلين، أولهما الفصل الثالث والتسعون وثانيهما الفصل الرابع والتسعون، حيث يشير الأول إلى إحداث هذا المجلس والثاني إلى أن للحكومة ولمجلس النواب ولمجلس المستشارين أن يستشيروا المجلس الاقتصادي والاجتماعي في جميع القضايا التي لها طابع اقتصادي واجتماعي، كما يدلي المجلس برأيه في الاتجاهات العامة للاقتصاد الوطني والتكوين. بيد أن تفعيل عمل هذه المؤسسة تطلب سبع عشرة سنة قصد إخراج هذه المؤسسة إلى حيز الوجود بقانون تنظيمي حمل رقم 60.09. فهل أتى هذا القانون التنظيمي في مستوى تطلعات الفاعلين السياسيين والمجتمعين؟ غاب عن المشروع التنظيمي في صيغته الأولى تضمينه لديباجة توضح السياق السياسي والفلسفة التي تحكمت في بروز هذا المجلس، فيما استدرك المشرع أهمية الديباجة في الصيغة الثانية للقانون التنظيمي، بيد أنها صيغت صياغة أدبية وليس بلغة قانونية تقريرية، وهو الأمر الذي نحا إليه المجلس الدستوري في قراره الأخير الحامل لرقم 10/786. م.د حينما أشار إلى أنه «حيث إن القوانين التنظيمية تعد منبثقة من الدستور ومكملة له وتغدو أحكامها، بعد تصريح المجلس الدستوري بمطابقتها للدستور، امتدادا له، وحيث إنه تبعا لذلك، وإن كان ليس ما يحول دون تصدير قانون تنظيمي بديباجة له، فإنه يتبين من النظر في ديباجة القانون التنظيمي المعروض على المجلس الدستوري أنها لا تعدو أن تكون مجرد أفكار عامة لا تتضمن مبادئ من صميم محتويات القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي كما حددها الفصل 95 من الدستور، مما لا يتأتى معه فحص دستوريتها على الحال، ويتعين بالتالي اعتبارها غير مندرجة في النطاق المحدد لهذا القانون التنظيمي». والواقع أن الديباجة ليست مسألة شكلية في صياغة البنية التنظيمية لأي نص بقدر ما تعتبر توطئة للفلسفة والمبادئ العامة التي رام منها المشرع خلق هذه المؤسسة، وما كان على المشرع أن يغفل هذا الأمر نظرا إلى الانتظارات القوية والدالة المنتظرة من هذا المجلس. بعيدا عن إشكالية تضمين الديباجة في صلب هذا القانون، أثارت مقتضياته الكثير من الملاحظات نورد أبرزها على النحو التالي: بالنظر إلى تركيبة المجلس الاقتصادي والاجتماعي، نجده يتكون من الرئيس المعين بظهير شريف، إلى جانب 99 عضوا موزعين على خمس فئات كما يلي: أ - فئة الخبراء في مجالات العمل الاجتماعي والتنمية الاجتماعية والتكوين والتشغيل والتنمية المستدامة، وفي المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمالية وذات الصلة بالتنمية الجهوية وتكنولوجيات الإعلام والاقتصاد الرقمي، وعددهم 24 عضوا يعينهم جلالة الملك اعتبارا للمعارف الخاصة والخبرة والتجربة التي يتوفرون عليها ولمؤهلاتهم العلمية أو التقنية، بحيث لا تثير هذه الفئة أي إشكالات، إذ إن وجود هذه الفئة داخل المجلس من شأنه أن يعزز العمل الحكومي والبرلماني على حد سواء، حيث سيمكن من تقديم أجوبة لممكنات المغرب الراهن، خصوصا في مجال التنمية المستدامة والحكامة وتنمية قدرات العمل الجمعوي، ولاسيما في شقه الاجتماعي. ب- فئة ممثلي النقابات الأكثر تمثيلا للأجراء بالقطاعين الخاص والعام، وعددهم 24 عضوا، من بينهم 12 عضوا يعينهم الوزير الأول، و6 أعضاء يعينهم رئيس مجلس النواب، و6 أعضاء يعينهم رئيس مجلس المستشارين، وذلك باقتراح من الهيئات والجمعيات المهنية التي تنتدبهم. وجدير بالذكر أن هذه الفئة كانت حاضرة في تجربة المجلس الوطني للشباب والمستقبل، بيد أنه ينبغي هنا استحضار منطق الكفاءة والفاعلية وليس منطق التوافق والتراضي، خصوصا في الظرفية الحالية، فالمجلس لا ينبغي أن يكون فضاء مطلبيا اجتماعيا بقدر ما ينبغي أن يكون قوة اقتراحية هادفة إلى تحقيق تنمية مستدامة. ج- فئة الهيئات والجمعيات المهنية التي تمثل المقاولات والمشغلين العاملين في ميادين التجارة والخدمات والصناعة والفلاحة والصيد البحري والطاقة والمعادن والبناء والأشغال العمومية والصناعة التقليدية، وعددهم 24 عضوا، من بينهم 12 عضوا يعينهم الوزير الأول، و6 أعضاء يعينهم رئيس مجلس النواب، و6 أعضاء يعينهم رئيس مجلس المستشارين، وذلك باقتراح من الهيئات والجمعيات المهنية التي تنتدبهم. د- فئة الهيئات والجمعيات النشيطة في مجالات الاقتصاد الاجتماعي والعمل الجمعوي، ولاسيما العاملة منها في مجال التنمية المستدامة والرعاية الاجتماعية ومحاربة الفقر والتهميش، وكذا في المجال التعاوني والتعاون المتبادل وحماية حقوق المستهلكين، يتم اختيارهم اعتبارا لمساهمتهم في هذه الميادين، وعددهم 16 عضوا، من بينهم 8 أعضاء يعينهم الوزير الأول، و4 أعضاء يعينهم رئيس مجلس النواب، و4 أعضاء يعينهم رئيس مجلس المستشارين، ويستشير رئيسا مجلسي البرلمان الفرق البرلمانية قبل تعيين الأعضاء المذكورين. إن إشراك فعاليات المجتمع المدني ستستقبله جمعياته بالكثير من الترحاب، حيث سينوه النسيج الجمعوي بمبادرة الحكومة من خلال إشراك الفاعل الجمعوي في تمثيلية هذا المجلس، بيد أنه سيعلن نوعا من التحفظ حول الحصة الممنوحة لهذه الفئة ليطالب النسيج الجمعوي بالرفع منها إلى 24 عضوا أسوة بباقي الفئات الممثلة في المجلس. وفي المقابل، سيدخل النسيج الجمعوي على الخط ليقدم اقتراحات مست جوهر هذه المؤسسة، حيث سيبلور في هذا الصدد 13 مقترحا على مشروع القانون التنظيمي، إلا أن جل التعديلات التي تقدم بها النسيج الجمعوي لم يتم الاسترشاد بها إلا في إطار محدود. ه- فئة الشخصيات التي تمثل المؤسسات والهيئات التالية، والتي تعين بهذه الصفة، وعددها 11 عضوا، كما يلي: والي بنك المغرب، المندوب السامي للتخطيط، الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتعليم، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، رئيس المجموعة المهنية للأبناك بالمغرب، المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، مدير الصندوق المغربي للتقاعد، الرئيس المدير العام للصندوق المهني المغربي للتقاعد، مدير الوكالة الوطنية للتأمين الصحي، رئيس المرصد الوطني للتنمية البشرية. تثير هذه التركيبة جملة من الملاحظات الشكلية، حيث نسجل ضرورة توسيع مجال تمثيلية المغاربة بالخارج لاعتبارات متعددة، أولها احتواء الجالية على خيرة من الأطر الكفأة في إطار حاجة المغرب إلى الخبرات اللازمة على المستوى الاقتصادي والعلمي والمالي والتكنولوجي. ثانيها احتواء مطالب بعض جمعيات الجالية المغربية التي لم تجد نفسها في المجلس الأعلى للجالية، كما ينبغي أن يشتمل المجلس على وجود تمثيلية وازنة للمرأة في إطار تكريس مقاربة النوع الاجتماعي إلى جانب مراعاة تمثيل العالم القروي، مثلما غاب عن هذا القانون عدم تمثيل وكالة التنمية الاجتماعية ووكالات الاستثمار بالرغم من دورها الفاعل في التنمية الاجتماعية، وتزداد هذه الأهمية حضورا مع إقدام المغرب في السنوات القادمة على تفعيل جهوية موسعة، حيث نسجل في الأنظمة الديمقراطية المعاصرة أن دور المجالس الاقتصادية والاجتماعية على الصعيد الجهوي يفوق بكثير دور المجلس الاقتصادي والاجتماعي على الصعيد المركزي. أما بخصوص كيفية اختيار هؤلاء الأعضاء، فإن القانون لم يحسم في معايير التمثيل، حيث أحال ذلك إلى مرسوم سيحدد هذه المعايير. أما بخصوص اختصاصاته، فإنه طبقا لأحكام الفصل الرابع والتسعين من الدستور يضطلع المجلس بمهمة استشارية لدى الحكومة ومجلس النواب ومجلس المستشارين، حيث يعهد إليه على الخصوص بالقيام، وفق الشروط والكيفية المنصوص عليها في أحكام هذا القانون التنظيمي، بما يلي: - الإدلاء برأيه في الاتجاهات العامة للاقتصاد الوطني والتكوين، تحليل الظرفية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية والجهوية والدولية، تقديم اقتراحات في مختلف الميادين المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنمية المستدامة، تيسير وتدعيم التشاور والتعاون والحوار بين الفرقاء الاقتصاديين والاجتماعيين، والمساهمة في بلورة ميثاق اجتماعي، إعداد دراسات وأبحاث استشرافية وتوقعية في المجالات المرتبطة بممارسة صلاحياته. وتحيل الحكومة ومجلس النواب ومجلس المستشارين، كل في ما يخصه، وجوبا على المجلس، قصد إبداء الرأي في مشاريع أو مقترحات القوانين التي تضع إطارا للأهداف الأساسية للدولة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المنصوص عليها في الفصل 46 من الدستور، مشاريع مخططات التنمية المنصوص عليها في الفصل 50 من الدستور، ومشاريع ومقترحات القوانين الرامية إلى تنظيم العلاقات بين الأجراء والمشغلين وإلى سن أنظمة للتغطية الاجتماعية إلى جانب مشاريع ومقترحات القوانين المتعلقة بالتكوين. بالنظر إلى هذه الاختصاصات، نسجل أنه اعتراها قدر كبير من الضبابية والإسهاب. وهنا، لا بد للمجلس الدستوري في معالجته للنظام الداخلي للمجلس من أن يعقلن من حالة الإسهاب غير المبرر على مستوى اختصاصاته، حيث ينبغي أن يحدد بوضوح في النظام الداخلي طبيعة هذه الاختصاصات. إن المجلس الاقتصادي والاجتماعي رغم كونه مؤسسة استشارية فإن له دورا أساسيا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بالنظر إلى أهمية الوظائف المنوطة به والتي تنم عن الرغبة في جعله فضاء حرا مستقلا للنقاش والاستشارة في قلب السياسات العمومية، بيد أنه ينبغي تفعيل ومتابعة قرارات المجلس من قبل الحكومة حتى لا تبقى حبرا على ورق، كما أن هذا المجلس ينبغي أن يكون فضاء للحوار الاجتماعي العقلاني والمسؤول بعيدا عن المزايدات السياسوية أو عن توظيفه لأغراض انتخابوية رخيصة، فهو بمثابة خلية دائمة للتفكير العميق في الأسئلة الحارقة التي تؤرق المغرب الراهن ساعيا إلى إيجاد الأجوبة عنها، إن على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الفني أو البيئي.