سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تينيت: كلينتون استدعاني إلى البيت الأبيض وفاجأني بتعييني على رأس ال "سي آي إ يه" أمام الصحفيين قال إن صحف نيويورك جعلت تعيينه مادة للإثارة واتهمته بعدم كتمان الأسرار في طفولته
إنه كالأخطبوط يمتد في كل أرجاء المعمورة. ارتبط اسمه دائما، ولاسيما في بلدان العالم الثالث، بالمؤامرات وتدبير الانقلابات وإشاعة الاضطراب والتخريب في البلدان التي تحكمها أنظمة سياسية لا تروق للولايات المتحدة. جهاز لعب دورا هاما إبان فترة الحرب الباردة في مواجهة الشيوعية والاتجاهات الاشتراكية والتقدمية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية عموما.إنه جهاز المخابرات الأمريكية(سي.آي.إيه) الذي يثير اسمه الخوف لدى البعض والفضول لدى البعض الآخر.جهاز كتب عنه الكثير والكثير، إلا أن الغموض والالتباس لا زالا يكتنفان جوانب عديدة منه، قد تكون أقرب إلى الحقيقة إذا ما جاءت من مسؤولين سيطروا على أعلى هرم الإدارة والإشراف والمتابعة عليه.إنها معلومات يكشف عنها كبير الجواسيس جورج تينيت، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الأمريكية، الذي ولد في 5 يناير عام 1953 في نيويورك من أسرة يونانية هاجرت من ألبانيا مسقط رأسهما هربا من الديكتاتورية الشيوعية، وحصل على شهادته العليا في القضايا الدولية من جامعة جورج تاون بواشنطن في العام 1978، ليعين بعد ذلك موظفا في جهاز المخابرات السرية عام 1989، ونائبا لمدير جهاز المخابرات المركزية في العام1995، ثم مديرا عاما للجهاز نفسه في العام 1997، وبعد ذلك الاستقالة المباشرة له من هذا الجهاز في إدارة بوش الابن عام 2004 بعد توجيه العديد من الاتهامات إلى إدارته بالتقصير والإهمال، خاصة بعد الهجوم الذي وقع على السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا كان وقع الخبر علي أشبه بالصاعقة، خاصة أنني لم أفكر مطلقا في يوم من الأيام أن أحل محل توني في رئاسة الوكالة. كيف ذلك وأنا غير معروف إلا لدى بعض الدوائر الاستخباراتية البيروقراطية فقط، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان وضعي الصحي سيئا جدا فقد تعرضت أكثر من مرة لأزمات قلبية في أقل من أربع سنوات فقط .وقد لاحظ توني علامات الاستغراب والدهشة التي كانت تبدو على وجهي ليقطع صمتي قائلا: «انظر يا تينيت.. أنت تعرف المكان جيدا وتملك المهارات اللازمة والرئيس يحبك ومجلس الشيوخ سيصادق على تعيينك.. قل لي من يمكن ترشيحه غيرك؟ كما أنك تحب هذا العمل». وما كان مني إلا أن أجبت عن كلام توني بقولي: «نعم .. ولكنني لا أريد المنصب بهذه الطريقة». وفي هذه اللحظة كانت الدموع على وشك أن تنهمر من عيني من فرط ما كان يعتمل في نفسي من عواطف ومشاعر تمتزج فيها الصدمة بعدم اليقين والأسى بتشوش العقل. أحسست بأني ممثل مبتدئ في أحد مسارح «برودواي» اكتشف لتوه أن أعز صديق له بطل العرض قد صدمته حافلة ركاب. مناسبة التعيين فكرت أن أقنع توني بعدم سحب ترشحه للمنصب، ولكن كان من الواضح أنه اتخذ قراره بالفعل، وعقد العزم على الانسحاب. ثم بدأت أعرب له عن شكوكي حول ما إذا كنت الشخص المناسب لشغل مثل هذا المنصب، ولكن توني كان على يقين بأنني أريد ذلك، ولم يكن يريد أن يدخل معي في نقاش حول هذه المسألة. و بادرني قائلاً: «انظر .. أنا لم آت بك إلى هنا لكي أسألك رأيك في خططي وقراراتي. طلبت منك المجيء لكي أطلعك عما أنا بصدد عمله.سأنسحب و سوف أبلغهم بأنه يتعين عليهم تعيينك مديراً ل«سي آي إيه».المسألة بسيطة، وأنا لا أريد أن أدخل في نزاع طويل مع الرئيس كلينتون، خاصة أن شلبي يريد أن يقاتل لمنع تعييني حتى آخر قطرة من دمه، وسيكون هذا فظيعا بالنسبة للوكالة التي هي الآن في أمس الحاجة لمدير»، لنجد أنفسنا بعد نصف ساعة نعود إلى نقطة البداية ليصافح كل منا الآخر ويمضي في حال سبيله . لقد أتيحت لي فرصة خدمة بلدي ومحاولة المحافظة على سلامته فيما يحدق به من خطر عظيم. لم يحالفني النجاح دائماً، لكنّني أشعر بالراحة لأنّني حاولت أن أفعل الصواب في الميدان. وهذا امتياز لا يُعطى لابن مهاجرَين إلا في الولاياتالمتحدة. وسأظلّ شاكراً دائماً لأنّ جون وإفانجليا تينيت غادرا قريتهما في اليونان ليمنحاني هذه الفرصة. وبمجرد عودتي لبيتي توجهت إلى غرفة المعيشة في الطابق الأرضي ورحت أفكر فيما حدث لي. وكما أفعل دائماً في مثل هذه الأمور، سألت زوجتي ستيفاني النصيحة: هل يمكنني الاضطلاع بهذا المنصب؟ هل أخوض التجربة؟ ماذا سيعني هذا لأسرتنا؟ لطفلنا جون مايكل الذي أنهى لتوه تعليمه الأساسي، و يحتاج أن يكون أبوه قريباً منه ؟... ومن واقع تجربتي كمدير ل«سي آي إيه» بالإنابة، كنت أدرك أن مهام المنصب ستأكل ساعات يومي بأكملها، وكانت ستيفاني دائماً أقوى سند لي، فعلى مدى العامين المنصرمين تولدت لديها مشاعر الحب تجاه النساء والرجال العاملين في «سي آي إيه». وستيفاني مثلي ذات أصول يونانية، ولديها استعداد لأن تطوي تحت جناحها كل العاملين في جهاز ال«سي آي إيه» الذين أصبحوا جزءا من عائلتنا الصغيرة . وقالت لي: «جورج.. أنت تستطيع أن تفعل ذلك لأن الوكالة في حاجة إليك.. لا تقلق علي أنا وجون. سنكون بخير وكذلك أنت«. وفي مساء اليوم التالي، الاثنين 17 مارس، أصدر أنتوني بياناً مكوناً من 1100 كلمة يعلن فيه سحب ترشحه للمنصب، وانتقد فيه تسييس وكالة المخابرات المركزية، فجاءتني مكالمة صبيحة يوم الأربعاء 19 مارس من جون بودستا، نائب رئيس أركان البيت الأبيض، يبلغني فيها بأن الرئيس كلينتون يود تعييني مديرا ل«سي آي إيه» دون أن يسألني عن رأيي في ذلك (كما كان قبله أنتوني) ودعاني للتوجه إلى البيت الابيض للقاء الرئيس. وهناك صعدوا بي إلى الجناح الرئاسي الخاص حيث التقيت بالرئيس كلينتون وساندي بيرجر، خليفة أنتوني ليك، الذي حل محله مستشارا للأمن القومي، وكذا بودستا. وبينما كنا نتبادل، أنا والرئيس، كلمات مقتضبة، كان بعض معاوني الرئيس من فريق العاملين بالبيت الأبيض يطلبون من زوجتي وابني التوجه للحاق بي في أسرع وقت ممكن. وقبل أن يمضي وقت طويل كان عدد كبير من الصحفيين قد دعوا إلى البيت الأبيض ليستمعوا إلى الرئيس وهو يعلن عزمه تعييني مديراً ل«سي آي إيه». ومن حيث أقف أنا وزوجتي وابني في المؤتمر الصحفي للرئيس، توجهت للصحفيين ببيان مقتضب أعرب فيه عن مشاعري التي تمتزج فيها الفرحة بالمرارة، حيث إن صعودي مديرا للوكالة يتزامن مع تواري شخص أعشقه من كل قلبي هو أنتوني ليك. ووعدت الرئيس ببذل قصارى جهدي، ثم عدت إدراجي لاستئناف مهامي التي كنت بالفعل أزاولها بصفتي مديرا بالإنابة. عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أجد أنه من الغرابة أني لم أمر بمقابلة قبل حصولي على وظيفتي الجديدة. لقد كانوا يعرفونني بالطبع، ولكن لم يسألني أحد عما سأفعله بمجتمع المخابرات بعد تولي منصبي أو ما هي التغييرات التي سأدخلها أو ما أنوي عمله لاستعادة الروح إلى المكان الذي شهد تعاقب أربعة مديرين للوكالة خلال خمس سنوات قبل تعييني، ناهيك عن مرشحين للمنصب سحبت ترشيحاتهما. لقد كانت قصة تعييني مادة لصحف الإثارة في نيويورك، وخاصة الحي الذي نشأت فيه . وكان مانشيت إحدى هذه الصحف هو «الجاسوس الذي خرج من حي كوينز». و راحت الصحف تنقل عن جيراني من يعرب لها عن دهشته لقرار تعييني، وقال أحدهم إنه ترعرع معي، وأنني كنت في طفولتي كبير الفم وكان معروفا عني أنني لا أستطيع أن أكتم سراً، بينما قال آخر إنني كنت مميزاً، وبنوا حكمهم هذا على طريقة لعبي «كرة العصا» التي كنت بطلاً للمدارس فيها عام 1994، ليبقى أفضل ما قيل عني في هذا الصدد هو ما جاء على لسان أمي إيفاجليا تينيت. إذ رغم أنه مر على وجودها في الولاياتالمتحدة حتى تلك اللحظة 45 عاماً، فإن تأثير المجتمع اليوناني كان قوياً لدرجة أنها كانت لا تزال تتحدث الإنجليزية بصعوبة، فقالت أمي لصحيفة «ديلي نيوز»: « لدي ابن في وكالة المخابرات الأمريكية ولدي ابن يعمل طبيب قلب». حكمة أبي كان أبي جون تينيت عصامياً لم تغيره الأيام، منذ اليوم الذي ألقى به والده قاسي القلب خارج منزله وهو ما يزال في سن الحادية عشرة. في البداية سافر إلى فرنسا حيث وجد عملاً في منجم فحم، وهناك حسم أمره وتوصل بسرعة إلى قناعة بأن مستقبله لا ينبغي أن يكون في المناجم، وما كان منه إلا أن رحل إلى الولاياتالمتحدة حيث وصل إلى جزيرة «اليس» قبل وقت قصير للغاية من فترة الركود الكبير. وصل دون أن تكون في جيبه قطعة نقود معدنية واحدة أو صديق يمد إليه يد العون. كل ما كان يعرفه هو أنه يريد أن يكون سيد نفسه وراعيا لأسرته، وأنه في أمريكا يمكن للكد في العمل أن يحقق لصاحبه ما لا يمكن تخيل تحقيقه في أي مكان آخر. وقد قام أبي مدفوعاً بإيمانه هذا بافتتاح كافتيريا صغيرة، كما كان يفعل المهاجرون اليونانيون قبل أن يصبح أمريكياً تماماً مع احتفاظه بجذوره الأوربية. أما مثله الأعلى الذي كان ينظر إليه كبطل فقد كان شارل دوغول. و أتذكر أبي عندما اصطحبني وشقيقي بيل من حيث نقطن في كوينز إلى مانهاتن لكي نشاهد دوغول في سيارة ليموزين مكشوفة. وأذكر أن والدي هتف أثناء مرور موكب الزعيم الفرنسي : تحيا فرنسا. ولمحت دوغول يوجه ناظريه تجاهنا، وهنا شعرت بأنني في حضرة رجل عظيم، وهكذا كان شعوري دائماً عندما أكون مع أبي، فقد كان رجلا رقيق القلب وأميناً وشديد الاهتمام بالشؤون العالمية، وكانت مائدة عشائنا دائماً ملتقى للمناقشات السياسية وأخبار اليونان وطنه الأم، وأمريكا وطنه بالتبني، وكانت المناقشات تتأرجح ما بين الحديث باليونانية والحديث بالإنجليزية. أما أمي فقد كانت أكثر إثارة مما عليه الحال بالنسبة إلى أبي. فأمي من جنوب ألبانيا وقد هربت منها بعد أن قتل الشيوعيون أخويها وانهار أبوها فيما بعد من فرط حزنه على مقتلهما، ولقي حتفه بعد أزمة قلبية. وقد تمكنت أمي بمفردها من ترتيب أمورها وشق طريقها الى الساحل الأدرياتيكي على متن غواصة بريطانية عقب الحرب العالمية الثانية حيث كانت الحدود مغلقة في ذاك الوقت. وقد شقت أمي طريقها في البداية إلى روما ثم أثينا، وهناك كان من الممكن أن تمضي بقية عمرها لولا أحد أعمامها الذي كان يعمل بأحد المطاعم في نيويورك. إذ كان العم لامبروس قد تحدث إلى والدي عن ابنة أخيه التي ولدت في قرية ألبانية، و التي لم تكن فقط جميلة وإنما أيضاً هربت لتوها من قرية قريبة من مسقط رأس أبي. وربما كان هذا الحديث هو الذي شجع أبي على العودة إلى اليونان في عام 1952 وملاقاة أمي طيلة أسبوعين، تزوجا على إثرهما. وبعد أسبوع من الزفاف وصلت أمي لكي تنضم لأبي للعمل في كافتريا عرفت باسم «تونتيث سينشري دينر». كانت هي «الخباز» وكان هو «الشيف». وفي كوينز حيث توجد جالية يونانية كبيرة، راحت أمي بفخر تقوم برعاية أسرتها. كانت أمي موهوبة في قراءة الناس واستقراء سمات شخصياتهم، سواء من الأفراد العاديين أو من الشخصيات العامة، وكان بمقدور أمي أن تكتشف الكاذب من بعد ميل، فقد كان لها تأثير عجيب على الآخرين، وقد مزحت مع بعض الأصدقاء ذات مرة و قالت إن ياسر عرفات لو تعامل معي لتحول إلى عجين كعك مرنة في يدي.