يتحرى فقهاء القانون، كما السياسة، دائما، في أسباب النزول. وإذا ظهر السبب بطل العجب، لذلك يصبح مفهوما أن إيطاليا، البلد الأوربي، ما دامت في طريقها إلى التخلص من وجود حوالي 25 ألف مهاجر جزائري يقيمون فوق أراضيها بطرق غير شرعية، فلا ضرر أن تبادل الجزائر بعض الكلام الذي يرضي غرورها في قضية الصحراء. ألم نقل دوما أن لا شيء يحرك الدبلوماسية الجزائرية غير تصعيد عدائها ضد المغرب في قضية الوحدة الترابية. مجمل القصة أن وزيرة في الخارجية الإيطالية، تدعى سيلفيانا كراكسي، نقل عنها الوزير الجزائري عبد القادر مساهل تصريحات تفيد بأن الجزائر وروما «تريدان مساعدة طرفي النزاع وتدعمهما من أجل الوصول إلى حل»، فيما شدد المسؤول الجزائري على «حماية حقوق الإنسان في الصحراء». هذا النوع من التصريحات الملتهبة، التي تخلط بين الموقف الإيطالي المعروف وبين الزج بالموقف الجزائري المرفوض، دوليا وعمليا، طالما أن مجلس الأمن الدولي استبعد هذه الصيغة الانتقائية ذات الخلفية السياسية، يعكس إلى أي حد تبدو الجزائر مستعدة للتضحية بأي شيء من أجل إيهام الرأي العام الجزائري بأنها حققت شيئا في صراع يدرك الجميع أنه خاسر وبلا طائل. مع أن المقارنة لا تصح في غير تطابقها، فإنه يمكن ملاحظة أن الجزائر قبلت بترحيل 25 ألف مواطن يقيمون في إيطاليا، من أجل انتزاع موقف ما من السلطات الإيطالية، لكنها، في الوقت ذاته، ترفض العودة الطوعية لآلاف المغاربة المحتجزين في تندوف، والذين يعانون من شتى ضروب انتهاكات حقوق الإنسان. فهي، بذلك، تضع حاجزا من التمييز بين هذه الحقوق. وإذ تقبل بعودة جزائريين إلى بلادهم، بالرغم من أنهم اختاروا الذهاب إلى إيطاليا بمحض إرادتهم، هربا من بؤس العيش وانسداد الأفق داخل الجزائر، فإنها تنكر هذا الحق على مواطنين مغاربة يتحدرون من أصول صحراوية، بالرغم من أنهم تعرضوا للاختطاف والنزوح القسري لتأثيث مخيمات تيندوف بوجودهم، وتبقي عليهم كرهائن، في سابقة قل نظيرها، في العلاقات الإنسانية والدولية. أما السبب فيعود، أساسا، إلى أن الجزائر غير المهتمة بحياة مواطنيها، تريد إيهام الرأي العام بأنها تدافع عن قضية إنسانية، وهي إذ تكيل بمكيالين نقيضين، إنما تفضح نواياها التي دفعتها إلى تسخير ثروات الشعب الجزائري الشقيق في قضايا لا تعنيه أصلا، لأنها غير مشروعة ولا يمكن أن يقبلها الشعب الجزائري، الذي يكن لشقيقه المغربي كل أنواع الاحترام والأخوة والتقدير. من حق الجزائر أن تدير ملف علاقاتها مع إيطاليا بالشكل الذي ترتضيه، ومن حقها أن تقبل أو ترفض ترحيل مواطنيها المقيمين بطرق غير شرعية، غير أن موقفها الذي يعتريه الضعف في مواجهة مطالب إيطالية وأوربية، زادت حدتها نتيجة الأزمة الاقتصادية، كان بالإمكان ألا يسقط في هذا التراجع، طالما أن ملف الهجرة غير الشرعية يبقى هاجسا مشتركا بين دول الشمال الإفريقي والاتحاد الأوربي. فهي تدفع ثمن غرورها يوم تصورت أن بإمكانها أن تمسك بخيوط كل الملفات، دونما الحاجة إلى تنسيق مع بلدان الجوار الإقليمي. وفي الوقت الذي طرح فيه المغرب فكرة إقامة حوار أورو إفريقي حول إشكاليات الهجرة غير الشرعية، والذي نظم أول مؤتمر له في الرباط، رفضت الجزائر المشاركة بذريعة أنها غير معنية بهذا الملف، بالرغم من أن فضاءات الحدود الشاسعة بينها وبين المغرب اعتبرت مراكز انطلاق أفواج المهاجرين، خصوصا القادمين من بلدان الساحل جنوب الصحراء. ومن خلال تفويتها لتلك الفرصة، التي كان معولا على أن تسمح بقيام تنسيق شامل بين بلدان الانطلاق والعبور والضيافة، تكون الجزائر قد وضعت نفسها في موقف ضعيف، بل إنها من خلال تبني أسلوب المقايضة المرفوضة في العلاقات بين الدول، تكون قد استسلمت للأمر الواقع، بل قدمت سابقة خطيرة قد تجعل بلدانا أوربية أخرى تنحو في هذا الاتجاه وتزيد في سياسة التضييق على المهاجرين المغاربة والأفارقة. لاشك أن الجزائر رضخت للمطالب الإيطالية تحت ذريعة أن بإمكانها التغلب على مشاكلها الاجتماعية وصعوباتها الاقتصادية. فقد تزامن قبول ترحيل مهاجريها مع الإعلان عن خطة بملايير الدولارات لإقامة بنيات تحتية تكفل استيعاب المشاكل البنيوية. إلا أن التجربة دلت على أن الجزائر لا تعاني من الحصول على المال الوفير، وإنما تواجه صعوبات في تدبير المشاكل وإقامة المشاريع، بدليل انفجار المزيد من الفضائح المالية التي وصلت حدا لا يطاق من الإهدار والتسيب والاستغلال. وهذه قضية داخلية تهم الجزائريين ولا أحد غيرهم. الكل يعرف أن للإيطاليين شطارتهم، وقد حدث مرة أن وزير خارجية إيطاليا استدرج الوزير الأول المغربي الأسبق عبد الرحمن اليوسفي إلى خندق الهجرة. فقد سمع المسؤول المغربي كلاما مشجعا حول قضايا ثنائية وإقليمية، قبل أن يفاجأ بأن الوزير الإيطالي مهتم أكثر بانتزاع موافقة السلطات المغربية على ترحيل مهاجرين من إيطاليا عبر رحلات جماعية، وحين فطن اليوسفي إلى أبعاده أعلن رفضه الإذعان للأمر الواقع، مؤكدا أن الحوار حول هذه القضية يجب أن يكون شاملا ويطال الأسباب والأبعاد. ولعل هذه المقاربة تقود إلى فهم خلفيات الموقف الجزائري الذي يمكن أن يضحي بأي شيء إذا توقع أن الأمر يصب في خانة حشد العداء ضد الوحدة الترابية للمغرب، وتلك آفة أكبر من أي انزلاق. وليس أمام المغرب إلا أن يتعايش مع جار بهذه الشراسة، التي تصبح أحيانا ضد أبناء الجزائر.