حدثٌ غريب كانت محكمة الاستئناف في آسفي مسرحا له، قبل حوالي ثمان سنوات. في 17 يناير 2002، كان يوم مثول المتهم «عبد الخالق ب. ز.» أمام المحكمة بعد ضبطه متلبسا بتهمة السرقة. لم يكن يخطر ببال ابن نواحي مدينة الصويرة أن تصير سيرته وملفُّه والخطوة التي أقدم عليها داخل المحكمة على لسان السفيانيين... بعد ملفات كثيرة بث في جزء منها القاضي وأجَّل البعض الآخر، جاء الدور على عبد الخالق، الذي يبلغ من العمر 23 سنة. طلب القاضي المناداة على عبد الخالق، صاح الموظف القريب من القضاة: «عبد الخالق ب. ز».. تأخر عبد الخالق عن الخروج من الغرفة التي يتجمع فيها السجناء والمتابعون، الأمر الذي أثار استغراب القاضي وعائلة المتهم، الذي انقطع عن الدراسة بمجرد رسوبه في القسم الثاني ابتدائي. حضر القاعةَ بعض أفراد أسرة عبد الخالق من أجل معرفة مصير الابن الذي سبق أن توبع بالتهمة نفسها وحُكم عليه بسنتين سجنا نافذا. كانت القاعة تغص بالحاضرين وكانت المرافعات على أشدها، يحكي دفاع المتهم. بعد المناداة عليه للمرة الثانية، دخل عبد الخالق القاعة، مرفوعَ الرأس وكأنه يرسل رسالة إلى الحاضرين مفادُها أنه لا يهاب الحكم وأنه سيدافع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة لفظية... بدأت المحاكمة بسؤال وجهه القاضي إلى عبد الخالق، بعد أن طلب معلومات عنه. توجه القاضي إلى الشاب الواقف أمامه قائلا: «هل قمت فعلا بسرقة مبلغ 10 ملايين سنتيم من الشركة؟»... لم يؤكِّدْ عبد الخالق أو ينْفِ في الحين، لكنه أخذ متسعا من الوقت للتفكير قبل أن يردَّ بالإيجاب، مستطردا: « لكن دافع السرقة هو أن والدتي مريضة ووالدي متوفي وأخواتي صغيرات وما زلن يدرسن وأنا من يعيل الأسرة»!... لم يتقبّل القاضي مبررات عبد الخالق، خصوصا وأنها العملية الثانية التي نفذها بعد أن كان قد حُكِم عليه من قبلُ بسنتين. وجه القاضي حينئذ اللوم إلى الشاب الذي يقف أمام مطأطأ الرأس، بعد أن كان واثقا من نفسه في البداية. لم يتقبل عبد الخالق الأمر حينما سأله القاضي ما إذا كان يقبل أن تلجأ إحدى أخواته إلى ممارسة الدعارة، مقابل توفير لقمة العيش لها ولوالدتها وأخواتها!... في تلك اللحظة، أجهش عبد الخالق بالبكاء وأُغميّ على والدته «فاطنة»، المصابة بداء السكري. استعادت والدة عبد الخالق الوعيَ بعد تقديم الإسعافات الأولية لها، لتستأنف الجلسة سيرَها بعد أن توقفت قليلا. تقدم دفاع عبد الخالق بكل الدفعات والمعلومات التي من شأنها التخفيف عن موكله، خصوصا وأن المتهم أقرَّ بفعلته. لكن مداخلات ممثل النيابة العامة قلّلت من حظوظ التشديد بالنسبة إلى «عبد الخالق»، وهذا ما دفع به إلى التزام الصمت، لفترة طويلة، من هول الصدمة من الأحكام التي كان يطالب ممثلُ النيابة العامة القاضي بإنزالها في حق «عبد الخالق»، بتهمة السرقة والعود... جاءت اللحظة التي ستشدُّ انتباهَ كل من كانوا متواجدين في تلك اللحظة في محكمة الاستئناف في مدينة آسفي. طلب القاضي من عبد الخالق تثميل جميع لحظات وأطوار تنفيذه عملية السرقة.. توقف عبد الخالق عن الحركة قبل أن يمتثل لطلب/ أمر القاضي. بعد رواية الشاب «عبد الخالق» للقاضي كيف حضرته فكرة السرقة وتحديد المصنع وليس غيره من المؤسسات والمنازل لتنفيذ عمليته، وهي الشركة التي يعمل فيها أحد أصدقائه الذي كان يحكي له عن تفاصل المصنع وكيفية اشتغاله وظروف عمله إلى أن وصل إلى ليلة تنفيذ العملية... وقف في المكان الذي يمثل فيه المتهمون وكان يشبه المدخل الرئيسي للمصنع. كان هناك حارسان يقومان بدور حارسي المصنع. طلب «عبد الخالق» من القاضي أن يأمرهما بالتنحي قليلاً. أدار رجلا الأمن ظَهريهما للمتهم بعد أن أمرهما القاضي بالمشاركة في تمثيل العملية. أعاد المتهم للقاضي «تمثيل» لحظة دخوله من الباب في اللحظة التي كان فيها الحارسان يتبادلان الحديث ويستمتعان بنغمات الموسيقى الصاخبة التي سهّلت على عبد الخالق عمليةَ دخول الباب. عمد الشاب إلى التسلل من الباب، حاملاً بعضَ الآلات الحادة التي قال إنه كان يريد استعمالها في تكسير بعض الأقفال وليس في الاعتداء على الحارسين. أخذ الشاب الذي كان مصفَّد اليدين، أثناء مثوله أمام القاضي، يتحرك في أرجاء قاعة الجلسات، مجسدا تسلُّلَه داخل أرجاء ومرافق الشركة. كان عبد الخالق ينتقل من ركن إلى آخرَ وسط القاعة، ويختبئ تحت المقاعد ووراء أعمدة القاعة، إلى اقترب من باب قاعة الجلسات، في الوقت الذي بقي فيه رجلا الأمن واقفين في مكانهما. وصل عبد الخالق إلى باب الغرفة التي تعتبر مكتب المسؤول المالي عن الشركة.. كان هذا المكتب يضم دولابا فيه مبلغ مالي قيمته 10 ملايين سنتيم، هذا المكان هو باب القاعة التي يمثل فيها «عبد الخالق» عملية السرقة التي اقترفها. خاطب «عبد الخالق» القاضي قائلا إنه وصل إلى مكان الهدف. أمره القاضي بتمثيل كيفية السطو على المبلغ. حيئنذ، تبادرت إلى ذهن «عبد الخالق» فكرة اختلاق حركة لم يقم بها أثناء قيامه بالعملية، وهي الاختباء وراء باب الجدار القصير الذي كان يفصل مكتبين عن بعضهما. كان الهدف من ذلك هو الاختباء وراء الحائط الذي يفصل القاعة عن باحة المحكمة. توجه المتهم خلف حائط قاعة الجلسات من أجل تمثيل لحظة اختبائه فور سماعه خطى الحراس تقترب. وانتظر القاضي دخول عبد الخالق لمعرفة التفاصيل الأخرى للعملية... كانت أعناق رجال الأمن والحاضرين والقضاة والمحامين تشرئبُّ صوب الباب الرئيسي للقاعة، ينتظرون دخول وعودة «عبد الخالق» إلى القاعة. لكن طول الانتظار جعل البعض يضع يده على قلبه وقد أدرك أن المسرحية قد انقلبت هي الأخرى إلى عملية للفرار جعلت حالة من الاضطراب والارتباك تسود داخل المحكمة وبين القضاة ورجال الأمن. فور إدراكهم أن المتهم قد «مثّل» عملية هروب ذكية، أعطى رئيس المحكمة أوامره بالبحث والقبض على السجين الفار. انطلقت عملية البحث من قاعات الجلسات الأخرى وباقي مكاتب المحكمة، لتنتقل إلى جوانب ونواحي المحكمة القريبة من غابة تدعى «الكارتينغ»، هذه الغابة التي تحتوي على أشجار وأسوار تؤدي إلى بعض البوادي والقرى المجاورة للمدخل الرئيسي لمدينة آسفي الساحلية. بعد يوم واحد من عمليات البحث التي انطلقت في نواحي المنطقة، عثر على عبد الخالق نائما داخل أحد أكواخ الغابة المجاورة، ليتم تقديمه للمحاكمة من جديد، بتهمتي السرقة والفرار، لكنْ دون أن يطلب منه القاضي، هذه المرة، إعادة تمثيل عملية السرقة أو الفرار التي قام بها، ليُحكَم على «عبد الخالق» بالسجن لمدة 10 سنوات سيقضيها في السجن المدني لآسفي.