من الضروري في البدء تحرير المفاهيم. والعنف الفردي في الدفاع عن النفس، كما لو هاجم شقي رجلا، فدافع أحدنا عن نفسه لا يدخل في حديثنا. وورد في (الحديث) بما معناه أن من دافع عن نفسه فقتل يعتبر شهيدا. ومن قتل دون ماله فهو شهيد. ومن قتل دون عرضه فهو شهيد. وهذا شيء لا يدخل في العمل السياسي. والدولة حينما تأتي لتعتقل شخصاً؛ فيجب أن لا يدافع عن نفسه في وجه الجاندراما والمخابرات حتى لو ضربوه وسلسلوه! والفرق هنا كبير وجوهري في الدفاع عن النفس ضد لص، والدفاع عن النفس بالرشاشات ضد رجال الدولة؛ فهذا الذي يجب أن يبحث. وفي الصين واليابان يتدرب الناس، بمن فيهن النساء، في الدفاع عن النفس ضد الأوغاد والأشقياء والزعر والحرافيش، ممن يعترضون سبيل الناس، للاعتداء عليهم أو سلبهم أو اغتصاب بناتهم. فهذا يدخل في باب الاجتهاد الفردي، كيف يتصرف الإنسان؟ وهل يدافع عن نفسه وعائلته؟ أم يحل المشكلة بمال وسواه؛ فيفتدي نفسه وأهله. وهذا الأمر ظاهره عنف، ولكنه لا يدخل في موضوع العنف السياسي الذي نحن بصدده، أي قتال الدولة ورجالها، فيما إذا جاؤوا لاعتقال إنسان أو حبسه. وفي هذا المجال توجد (حادثة) و(تعليمات) من السيرة تروي حكاية الفرق بين الدفاع الفردي والسياسي. فأما الحادثة فيذكر عن صحابي أنه تعرض للإهانة من رجل قرشي فما كان منه إلا أن ضربه (بلحي) بعير إي قطعة عظمية من فك سفلي فشجه فكان أول دم أهريق في الإسلام، فيرى الشباب كما كتب أحدهم أنها فتوى في ضرب رجل الدولة إذا جاء لإلقاء القبض على مطلوب أمنياً. والفرق بين الأمرين كالفرق بين الأرض والسماء. و(تعليمات) الرسول ص كانت واضحة، وكان يردد على مسامع أصحابه «»أننا لم نؤمر بقتال» امتثالاً لقوله تعالى ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة»... وكان ص يمر على الصحابة وهم يعذبون؛ فلا يزيد عن القول صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. فلما اشتد البلاء على المؤمنين بما هو أشد ما حصل في انتخابات الجزائر لم يأمرهم بحمل السلاح وذبح الناس من أجل الإسلام، بل أمرهم بالصبر على الدعوة، وتحمل المحنة، ثم الهجرة إلى الحبشة؛ فإن بها حاكم لا يظلم عنده الناس. ومن الغريب أن هذه الأفكار من الصبر على الأذى ألغيت من ثقافتنا؛ فيقول أئمة العنف؛ إنهم لا يسمحون لنا بنشر الإسلام. والخلط هنا أن أفكارهم أصبحت تساوي الإسلام، وهي لا تزيد عن خيالاتهم عن الإسلام، وقد تبتعد وتقترب بمقدار حدة الفهم. مثل موضوع اللباس واللحية حين يتحول إلى قضية جوهرية، في الوقت الذي اعتبر القرآن قضايا أخرى جوهرية في الدغاع عن المظلوم والمسكين والأرمل والضعيف والأسير؟ فالمشكلة ليس بما غطى الجمجمة من قماش بل بما دخل الرأس من أفكار. وبتأمل الآية من سورة الأنعام نر استراتيجية الصبر على الأذى لأمر هام هو تكوين جيل جديد من البشر يحلون مشاكلهم فيما بين بعضهم بعضا بروح ديموقراطية كما يقال هذه الأيام، وليس بالعنف والسيف. فمن اعتاد سفك الدماء لم يتحرر منه. وأسنة الرماح قد تحل المشاكل ولكنها مكان غير مريح للجلوس. «ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين» فهذا الاختلاط يشوش الرؤية على الشباب فيظنوا أنه يجب قتال الدولة الظالمة أو ما يخيل إليهم أنها ظالمة. ومتى أعجبت الحكومة الناس؟ أي حكومة؟ والأمر الأشد خلطا وغبشا في الموضوع هو الغزوات والسرايا التي شنها الرسول ص وتقدر ب 23 غزوة حضرها بنفسه، وما يزيد عن ثمانين سرية لم يحضرها ص بنفسه بل أرسل أصحابه لشنها مثل غزة ذي قرد وسيف البحر وسواها كثير. فيظن الشباب أن الجهاد هو ضد الدولة لأن الرسول ص استخدم القوة المسلحة. وهذا يشكل نصف الحقيقة فمتى استعمل القوة وضد من؟ وهنا السؤال الحرج . ومن يقوم بدراسة (تشريحية) للسيرة يرى بشكل واضح أن هناك مرحلتين منفصلتين غير مختلطتين. في الأولى لم يستخدم الإسلام السلاح نهائيا وهي مرحلة الدعوة. وفي المرحلة الثانية مزج قوة السلاح مع تأسيس النظام السياسي في المدينة. وفلسفة الإسلام في العهد المكي أنه لم يستخدم السلاح والقوة لأنه كان ينشر الفكر في محيط سياسي تسيطر فيه قوى قبلية على موازين الأشياء. ولم تكن هناك حكومة مركزية مثل روما وفارس هي التي تتولى مصائر العباد كما في الحكومات المركزية الحالية فيعرف اسم الإنسان بالكمبيوتر في أي معبر حدودي. كذلك كانت المدن مثل يثرب (المدينة لاحقاً) تتمتع بنوع من الاستقلال السياسي ما يذكر بمدن اليونان القديمة من أثينا وأسبرطة وسواها. ولم يكن في الجزيرة العربية حكومة مركزية فهذا يجب الانتباه له واستيعابه. والرسول ص وحد الجزيرة العربية لأول مرة ضمن منظومة سياسية واحدة. وهو يفسر الآيات الواردة في سورة التوبة عن عدم قبول الشرك السياسي في الجزيرة بعد عامهم هذا. وهو لم يستخدم وسيلة السيف والانقلاب العسكري للسيطرة على المجتمع لقناعته أن التغيير هو نفسي قبل كل شيء. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولكن بين الحركات الإسلامية وبين هذا اللون من الوعي مسافة سنة ضوئية كاملة!!. ولذا صبر المؤمنون حتى حصل التحول الاجتماعي ليس في مكة بل في يثرب المدينة. وحين نضجت الأمور وانتشر الإسلام في المدينة في كل بيت هاجر الرسول ص إليها. فهذه نقطة حدية يجب استيعابها في بناء الدول والأنظمة السياسية. وبسبب البيئة المستعصية في مكة فإنه حاول أي الرسول ص جاهدا أن ينشر دعوته في أي مكان آخر، وهذا هو السبب في عرض نفسه على القبائل، وهو يشبه التجمعات الحزبية هذه الأيام؛ فعندما تنتشر فكرة بين مجموعات حزبية في مجتمع ما وتتبنى الفكرة الأكثرية انقلب المجتمع وهو ما فعله بالضبط الرسول ص. واختلاط هذه الأفكار هو الذي يغذي الفكر العنفي حاليا فيرون الأشياء مقلوبة وليس من بدايتها فيرون صراع الأنظمة مثل معركة بدر وأحد وقتال الأمريكيين مثل غزوة مؤتة وحملة تبوك. فيضيع هدف الجهاد والمرحلية في تطوره. وأمام ما يحدث من عنف في المجتمع من التفجيرات وسواها يرجع إلى طبيعة الفكر السائد. وكليات الشريعة والمدارس الشرعية تدرس الفكر الفقهي القديم بدون وعي سياسي. و تتعاون (الجامعة) و(الجامع) على إفراز الفكر العنفي في كل مكان ووقت. فماذا يفعل أحدنا أمام الحديث أنه من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق؟ وهذه الكلمات القليلة التي أكتبها كتبتها بالتفصيل في منابر شتى ودعيت لتركيب لقاحات ضد وباء العنف مثل تهيئة اللقاحات ضد شلل الأطفال وجنون البقر وسعار الكلاب. وقلت سابقا أنه ليس ثمة من بلد عربي غير محصن ضد هذه الأوبئة، ولكن لم ينتبه أحد لما قلت، لأن الشعوب تتعلم بالعذاب، فيذاقوا من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر جرعة جرعة حتى يرجعوا عن الطريق الغلط أو الهلاك؟؟ وأوربا جربت الحروب من كل نوع زوجان من الدينية والقومية والعالمية حتى تابت توبة نصوحا عن استخدام السلاح والقوة لحل المشاكل وهذا فصل خاص في مشكلة العنف واللاعنف. والآن هي تبني أوربا الموحدة بدون حروب تحرير شعبية وجهاد. وبلغ عدد الدول عام 2010م م 27 دولة تضم 450 مليونا من الأنام؛ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام. وهي آية أمام أعيننا نمر عليها ونحن عنها معرضون. والمهم حاليا هو فك هذه الإشكالية من خلال دمج وخلط النصوص مع الوعي السياسي والتاريخي، وليس بطريقة اللعب بالكلمات على طريقة الشحرور الشامي، فيمكن استخراج أرانب بيضاء من قبعات سوداء، كما استخرج صاحبنا من قصة نوح أن فلكه كان مدورا مثل طاسة الحمام المغربية، وحوى الفلك المؤمنون والكافرون؟؟ أي والله!! وما لم يحدث وعي من هذا النوع فسوف تبقى الانفجارات في طريقها للحدوث، وجثث الضحايا تنقل بالنقالات إلى المشافي والقبور. إن الإصلاح النبوي لم يعتمد القوة المسلحة لتغيير المجتمع داخليا فهذا واضح. والغزوات والسرايا كانت بعد قيام نظام سياسي واضح مميز لرفع الظلم عن العباد. والرسول ص كان مستعدا للدخول في أي حلف مثل الفضول للدفاع عن المظلومين. والجهاد بشقه المسلح القتال في سبيل الله ضد الطاغوت هو من أجل تحرير الإنسان من الفتنة والفتنة أشد من القتل وهي إخراج الناس من ديارهم وعقائدهم بالقوة المسلحة. ومنه نفهم أن الجهاد بمعنى القتال المسلح لم يشرع لنشر الدعوة وليس فيه دفع وطلب كما يتحدث بعض فقهاء الوسطية؟ بل له آلية واضحة تظهر بتألق مع رؤية بنيوية للقرآن، بالمرور على آياته في كل موضع. مثل قصة بني إسرائيل حينما سألوا رسولهم أن يرسل لهم نبيا يقاتلون في سبيل الله فقال لهم «هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟» قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟» فكان واضحا مفهوم الجهاد ولماذا يقاتلون في سبيل الله؟ وهنا نضع أيدينا مع أي قوة عادلة في الأرض لتحرير أي إنسان على وجه الأرض من الظلم الواقع عليه، فهذا هو الجهاد الذي دعا له الإسلام وهو مفهوم إنساني راقي، يمكن أن ننطق به في أي منبر عالمي ويتقبل من الآخرين، ونجد من يضع يده معنا في هذه المشروع العالمي. وهو يشبه الدفاع المدني والإطفائيات لإطفاء الحرائق في الأرض، وليس لإشعال الحروب... وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين.