يجب أن نعترف لمجلس مدينة الرباط على الأقل بفضيلة واحدة، وهي أن العمدة الاتحادي فتح الله والعلو فوت مشروع بناء مراحيض عمومية بالرباط إلى شركة أجنبية. هكذا لن يتطلب قضاء الحاجة في المستقبل القريب بالرباط البحث عن أقرب جدار أو سور، أو التسلل إلى أقرب مقهى أو مطعم، بل فقط إخراج درهمين وإعطاءهما للشركة الأجنبية التي ستعمل على تجهيز شوارع العاصمة بالمراحيض. فالعمدة الاتحادي يعول على «قضاء الحاجة» لكي يدعم مداخيل ميزانية المجلس الموقر. وحسب ما تسرب من اجتماع مجلس المدينة حول معضلة المراحيض في العاصمة، فالشركة الأجنبية التي ستتولى تدبير «قضاء الحاجة» ستقترح أيضا خدمات هاتفية داخل المراحيض، يعني أن المواطن المستفيد سيضرب عصفورين بحجر، «يتفكر راسو ويقضي حاجة» و«يتفكر حبابو» بمكالمة هاتفية في نفس الوقت. كما أن العمدة سيمكن الشركة الفائزة بصفقة المراحيض من الاستفادة من عائدات الإشهار الذي سيلصقونه فوق أبواب المراحيض، فقدر المغاربة أن يتبعهم الإشهار حتى إلى «بيت الما». هكذا سيكون بمستطاع المواطن، المحصور أو المزحوم، أن يقضي حوائجه الطبيعية وفي الوقت نفسه يمضي وقته في قراءة إعلانات ملونة حول آخر صيحات الهواتف والأزياء وقروض السكن، يعني «حديث ومغزل»، كما يقول المغاربة. والواقع أن الفكرة ذكية. فمن كان منا يعتقد أن «بيت الما» يمكن أن يكون ذات يوم مصدرا من مصادر الربح للشركات والدولة. وقد كنا نشكو من فتح الله والعلو لأنه فرض الضريبة على القيمة المضافة حتى على «بوربوارات» النوادل في المقاهي، وها قد أحيانا الله حتى صرنا نسمع أن والعلو، وقد أصبح عمدة للعاصمة، سيأخذ ضرائب على «بيت الما» أيضا. فالشركة التي سترسو عليها الصفقة، وهناك من يجزم بأنها «باينة من الطيارة»، ستكون مجبرة على دفع ضرائب لمجلس المدينة كل سنة عن استغلالها لجدران المراحيض، وبالتالي فحاجات الناس الطبيعية، أعزكم الله، والتي دائما ما تشكو المجالس البلدية من ارتفاع تكاليف تصريفها، ستصبح أخيرا ذات مردودية على القطاع الخاص وأيضا على «الوعاء» الضريبي للدولة. وعلى الرغم من طرافة الفكرة، فإن صاحبها يملك حسا تجاريا عميقا. وحبذا لو أن كل المدن المغربية توقع مجالسها اتفاقيات شراكة مع شركات الإشهار لتشييد المراحيض واستغلال حيطانها. المواطن يقضي «حاجتو» والشركات تقضي «حاجتها حتى هيا». ولو أن مدينة عريقة كطنجة كانت فيها واحدة من هذه الشركات الأجنبية التي تبني المراحيض وتستغلها لما فشل المغرب في احتضان المعرض الدولي وذهب ليحط الرحال في كوريا. فقد اعتقد سعادة الوالي حصاد والشلة التي كانت تروج معه لمدينة طنجة، أن كؤوس «أتاي بزبلو» وطباصل كعب الغزال التي وفروها لأعضاء الوفد الأجنبي الذي زار طنجة كافية لإغلاق أعينهم عن افتقار مدينة بحجم طنجة، تعتبر المدينة الصناعية الثانية في المغرب بعد الدارالبيضاء، إلى مراحيض عمومية. ولم يكن يدور بخلد الوالي أن أعضاء الوفد سيغادرون الفندق الفخم لكي يتفقدوا أزقة المدينة السفلية وأحياءها الشعبية، ليكتشفوا بأنفسهم البنيات التحتية الحقيقية لطنجة. وعندما بحثوا عن مرحاض عمومي، ربما بسبب كثرة العصير والشاي الذي شرّبه لهم الوالي وصحبه، لم يعثروا عندما «تزيرت» بهم الوقت سوى على تلك الحيطان التي يكتب المواطنون فوقها بالفحم «ممنوع البول هنا يا حمار، وشكرا». والواقع أن كتب الدليل السياحي المخصص للأجانب الذين يضعون أرجلهم لأول مرة في المغرب، تتضمن نصيحة مخجلة بالنسبة إلى بلد سياحي كالمغرب يريد منافسة تركيا ومصر وإسبانيا. والنصيحة بسيطة في شكلها، لكنها قد تصبح بالنسبة إلى بعض السياح مسألة حياة أو موت، خصوصا الذين تفاجئهم حاجتهم الطبيعية وهم خارج الفندق. ولذلك ينصحهم الدليل السياحي قبل مغادرة الفندق بتفقد «الرادياتور» الطبيعي، أي بالمرور أولا بمرحاض غرفة الفندق وقضاء الحوائج الطبيعية قبل النزول إلى الشارع، لأنهم إذا خرجوا وشدهم الحنين إلى «بيت الما» فلن يلوموا ساعتها إلا رؤوسهم. المراحيض في المغرب لا تصلح لقضاء الحاجة فقط، بل تصلح لقياس درجة الوعي وحرارة المجتمع. وفي المرحاض يبدأ التلميذ بكتابة كل ما يخطر له على باله، وكان بعضنا يرد على شتائم تكون مكتوبة على حيطان المرحاض وبابه بالفحم بشتائم أخرى أقذع، فيما بعض المتطرفين منا كانوا يلجؤون إلى الكتابة بشيء آخر لا داعي لذكره. وإلى الآن، عندما تدخل بعض المراحيض يمكن أن تقرأ كتابات تعكس آراء المواطنين ووجهات نظرهم حول ما يجري حولهم. فالمرحاض هو السبورة النقابية للشعب حيث يمكن أن تكتب رأيك في وزير أو برلماني أو قائد أو لاعب كرة بدون أن تشعر بالخوف من المتابعة. فإلى الآن، لم يثبت أن توبع «شي قاضي حاجة» بسبب آراء سياسية كتبها ونشرها في المراحيض. الوحيدون الذين يتابعون الآن هم الصحافيون، مع أن كثيرا مما يكتبونه في جرائدهم ينتهي نهاية مأساوية في المراحيض، وعوض أن ينتهي المطاف بتلك الجرائد فوق مكاتب المحققين تنتهي في مجاري المياه. ولو أن وزير التعليم يفتح مركزا لجمع ودراسة كل ما يكتب وينشر على حيطان وأبواب مراحيض المملكة لكان جمع مادة مذهلة يمكن أن يقدمها هدية للسيد الحليمي لكي «يهز» بها الخط للمستقبل. وشخصيا، قرأت على باب أكثر من مرحاض آراء ومواقف سياسية يندر أن تسمعها في وسائل الإعلام المحلية. آراء ومواقف جريئة كتبها أشخاص في لحظة انتشاء، بسيجارة في يد وقلم حبر جاف في اليد الأخرى. أشخاص عاديون لا ينتمون إلى أي حزب أو تيار معين، فقط مروا من ذلك المرحاض وأرادوا أن يتركوا كلمة تدل عليهم وتشهد على أنهم مروا ذات يوم من هناك. فبسبب قلة المنابر التي يمكن أن يعبر فيها المواطنون عن آرائهم، أصبح بعضهم مضطرا إلى التوجه إلى المرحاض كما لو كان متوجها إلى برنامج تلفزيوني، هكذا أصبح المرحاض في المغرب منبر من لا منبر له. ويبدو أن هذا الشعار اخترعه المغاربة قبل أن تخترعه قناة «الجزيرة». وشخصيا، أرى في أدب المراحيض هذا عطشا كبيرا للتعبير من طرف المغاربة. وأحيانا يمكن أن تعثر على مقاطع جميلة من الشعر مكتوبة بعناية فوق باب مرحاض مكسور، وأحيانا أخرى يمكن أن تعثر على شعار سياسي يلخص موقفا شعبيا جريئا، وأحيانا أخرى يمكن أن تعثر على ركن للتعارف، حيث يترك بعضهم أسماءهم المستعارة وأرقام هواتفهم وصفاتهم المميزة. وفي مراحيض المدارس والثانويات يمكن أن نقرأ أخبار المؤسسة كلها، شكون الأستاذ «اللي كايزيد السوايع والنقط» و«شكون الأستاذ اللي كايبسل على البنات»، و«شكون المدير اللي كايشد التدويرة». فجدران المراحيض وأبوابها في المؤسسات التعليمية نشرات داخلية حقيقية يكتب عليها التلاميذ انطباعاتهم وآراءهم ويمارسون فيها سخريتهم وشماتتهم بنظام تعليمي وصل حدود الإفلاس. في وقتنا، كانت هناك مجلة اسمها «مجلة العندليب»، كنا مجبرين على اقتنائها بثلاثة دراهم. وكان المعلمون يدعون التلاميذ إلى المشاركة في الكتابة فيها بمحاولاتهم الأدبية. وأذكر أن أول خاطرة نشرتها كانت في هذه المجلة وعمري لا يتعدى اثنتي عشرة سنة. كثيرون في سني آنذاك كانوا يريدون التعبير عن خواطرهم بالكتابة، وكانت مجلات ونشرات داخلية في المدرسة تستوعب هذه الحاجة الماسة إلى التعبير لدى التلاميذ. الآن، ليس هناك من سند آخر لنشر كل ما يريد التلاميذ التعبير عنه غير طاولات الدرس وأبواب وحيطان المراحيض. وبما أن المرحاض مكان مغلق، فإن إمكانيات التعبير تكون بلا حدود. وجميع الطابوهات تتحطم على جدران المراحيض. وطبعا، بالإضافة إلى التعبير عن المواقف السياسية تبقى المراحيض أنسب مكان لنشر الوعي بثقافة النظافة. لذلك تلاحظون نصائح من مثل «كب الما موراك يا الخانز»، أو «ممنوع رمي الكاغيط في الطواليط يا الحمار»، وغير ذلك من «النصائح». قد يجد بعضكم أن موضوع أدب المراحيض في المغرب ثانوي وبدون أهمية. لكن دعوني أصارحكم بأنني أحيانا أستفيد مما أقرؤه في هذه المراحيض وأجد متعة في البحث عن ملامح وقسمات تلك أو ذلك المواطن الذي استغل وجوده وحيدا في ذلك المكان وعبر عن حيرته بسؤال، أو عن غضبه بشعار، أو عن روحه المرحة بنكتة ساخرة. ففي مجال حرية التعبير يطبق المغاربة شعارا قديما يقول: «اللي عندو باب واحد الله يسدو عليه»...