منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وعلى امتداد ثلاثة عقود، والخطاب الديني في المغرب يتمخض، باحثا عن مقاييس خاصة به تراعي تقاليده وخصوصياته العرقية واللغوية والجغرافية وتواكب تطورات العصر، فكان ظهير 1980 المنظم للمجالس العلمية والتي بلغ عددها 11 مجلسا علميا على امتداد التراب الوطني، وهي المجالس التي تركت فراغا في الحقل الديني ولم تستطع مسايرة الدينامية السريعة التي عرفها المجتمع المغربي خلال العشرين سنة الموالية على جميع المستويات (قضايا المرأة/القروض البنكيةالفتاوى/الخطابات الإسلامية الشعبوية /قضية الوحدة الترابية/الخمور).. إذ ساهم هذا الفراغ في انتشار الخطاب الديني غير الرسمي والذي مثلته مجموعة من التيارات الإسلامية باختلاف مشاربها وألوانها والمتضاربة المفاهيم والتأويلات متناقضة المناهج والأطروحات. وجاءت أحداث بداية الألفية الثالثة متسارعة، أحداث 11 شتنبر 2001 الإرهابية في الولاياتالمتحدةالأمريكية وأحداث 16 ماي 2003 الإرهابية في الدارالبيضاء... مواجهة الرغبين في نسف القيم فتحركت إمارة المومنين من موقع الأمانة العظمى لمواجهة هؤلاء الفاعلين الراغبين في نسف كل القيم الإنسانية الكونية والطامحين إلى العودة بالمملكة إلى عصور الظلام والاستبداد باسم الدين، فكان الملك محمد السادس صارما في خطابه عقب هذه الأحداث، إذ قال إن زمن التساهل قد فات، وحان وقت تطبيق القانون، فكان تاريخ 22 أبريل 2004 موعد إنطلاق مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني في المغرب، وتوالت بعد ذلك الخطوات تلو الخطوات من طرف الملك، باعتباره أمير المؤمنين، من أجل هيكلة الحقل الديني في المغرب وتوحيد الخطاب الديني الرسمي، وسد الطريق في وجه كل الظلاميين والمتطرفين الذين يتخذون الدين مطية لقتل النفس بغير حق أو تحقيق مصالح دنيئة، باسم قواعد يزعمون أنها من صميم الدين الإسلامي لكنها لا تمت للإسلام السمح بصلة. فهل يمكننا القول الآن إن الخطاب الديني في المغرب توحد واكتمل؟ وهل استطاعت الدولة، اليوم، سد الطريق في وجه باقي الفاعلين، كالحركة السلفية والعدل والإحسان والإصلاح والتوحيد والعدالة والتنمية؟ هل التصوف هو التوجه الصحيح للإسلام المغربي أم إن هناك تيارات أخرى تسكن في ذاكرة المغاربة؟ وكيف تواجه الحركة الإسلامية هذا الخطاب الرسمي؟ هل تنخرط فيه أم تقاطعه؟ هل توافقه أم ترفضه؟ أم تراها «تتحايل» عليه باسم الممارسة السياسية، كما هو الشأن بالنسبة إلى العدالة والتنمية؟ أم تتربص به، كما هو الأمر لدى العدل والاحسان، أو «تتمكَّر» به، كما هو الحال لدى السلفية المتطرفة؟ أو تنخرط فيه، كما هو معمول به لدى الزويا الصوفية؟... استراتيجية الخطاب الديني يبدو أن الخطاب الديني في المغرب لم يجد، إلى حد الآن استراتجية متكاملة ومنسجمة لتدبيره داخليا وخارجيا، بل إنه ما يزال يعيش في مرحلة التأسيس والتبرير، فهو لم ينعتق بعدُ من إرث الماضي ولم يسلم من انتقاضات باقي الفاعلين. مع ذلك، يمكننا تسجيل مجموعة من المكتسبات تمكنت الدولة اليوم من تحقيقها: - ضبط الخريطة الرسمية للقيمين الدينيين في المملكة. - توحيد الخطاب الديني داخل المساجد. توحيد الفتوى. - تغطية المجالس العلمية المحلية ومندوبيات الشؤون الإسلامية لجميع أقاليم المملكة. نجاح عملية إشراك المرأة العالمة في الخطاب الديني. لكن هذه المتسبات تسجل اختراق بعض الإسلاميين لها، فالعدل والإحسان والسلفية المتطرفة مازال لديهما بعض الأئمة في المساجد، يروجون لخطاباتهما من داخل الخطاب الرسمي للدولة، مما أدى بالوزارة الى فرض التزكية في الإمامة على جميع الأئمة في المساجد، لإبعاد ما تبقى من الأئمة التابعين للعدل والاحسان أو لباقي التيارات المعارضة، أولا، ولضبط خارطة ميثاق العلماء، ثانيا، وجعل المستفيدين من برنامج الميثاق هم الأئمة الممثلون للدولة فقط والمروجون لخطابها الديني. أما الأئمة والخطباء المنخرطون في حركة الإصلاح والتوحيد أو العدالة والتنمية فما يزالون يشكلون «رقما صعبا» في الخطاب الديني المغربي، رغم أن أغلبهم أعلن استقالته من الحركة أو الحزب، شكلا لا مضمونا. وهذا الرقم الصعب يفرض على المؤسسة الرسمية التعامل معه بحذر شديد، ومحاولة إقصائه وإبعاده في الخطوات المقبلة، خاصة أولئك الأئمة الذين لم يستطيعوا الانخراط في الخطاب الديني الرسمي وظلوا أوفياء للخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية الضيق، والذي يسيطر عليهم، بل ويدفعهم أحيانا إلى الترويج له داخل المؤسسات الرسمية، عن طريق التحايل والتمويه بالاستقالات من حركة الإصلاح والتوحيد ومن حزب العدالة والتنمية، لكن خطابهم وممارستهم مازالا يعملان لصالح الحزب والحركة. ونستشف ذلك ونلمسه من خلال انفتاح بعض المجالس العلمية المشكلة من أعضاء سابقين في هذه الحركة والحزب على فاعلين دعويين وأساتذة ينتمون إلى نفس الحركة وإبعادهم لباقي العلماء والأساتذة الباحثين أثناء تسطير برامجهم الثقافية والعلمية السنوية والشهرية.. كما أن الشراكات مع فعاليات المجتمع المدني التي يدعو إليها القانون الداخلي للمجالس العلمية لا تتم إلا مع الجمعيات المنتمية المحسوبة على هذا الخط. بين تحايل حركة الإصلاح وتربص جماعة العدل والإحسان ومكر الحركة السلفية الجهادية، يرسم الخطاب الديني طريقه الصحيح، ويتحرك بثبات نحو ضبط المسافة بينه وبين باقي الفاعلين، ولاسيما العدالة والتنمية والإصلاح والتوحيد...