انتظر المتحدث السابق باسم البيت الأبيض، سكوت ماكليلان، حتى وصلت الإدارة الأمريكية الحالية إلى الأنفاس الأخيرة من فترة رئاستها، وأطلق لسانه الذي كان معقودا أيام شغله لمنصبه السياسي الرفيع، و"طلّق" الإدارة سيئة السمعة بالثلاث! ماكليلان اختار أن يقول كل شيء دفعة واحدة في كتاب سماه "حقيقة ما وقع"، تحرر فيه من أي أشكال "اللياقة" أو "الأدب" تجاه من يلقبونه في البيت الأبيض ب"البوص" أو الرئيس. المتحدث السابق باسم البيت الأبيض الذي اشتهر بتسريحة شعره الكلاسيكية وربطات عنقه الغامقة وبذلاته الأنيقة الرسمية أكثر من اللازم، بدا متمردا كثيرا في كتابه الذي أثار عاصفة من الجدل داخل الولاياتالمتحدة منذ أيام. والسبب في كل ذلك كان الاتهامات الكثيرة التي كالها ماكليلان للإدارة الأمريكية الحالية، والتي اتهمها بالتسرع في شن حرب خاطئة على العراق، والاعتماد على دعاية عدوانية لتسويق قرار الحرب في وسائل الإعلام الجماهيرية وإخفاء الحقيقة عن الشعب الأمريكي... لائحة طويلة من الاتهامات ضمّها المسؤول الأمريكي السابق بين دفتي كتاب ضخم كُتب عنوانه بحروف بارزة باللونين الأبيض والأسود، في سخرية واضحة من اللون الرمادي المُريب الذي اختاره الساسة الأمريكيون لتلوين سياستهم الخارجية منذ وصولهم إلى البيت الأبيض. لكن الكتاب الذي تلقفه المعارضون لسياسات بوش بالتهليل والفرح، أثار موجة من السخرية بين أوساط المحافظين الذين لا يرون في حكام الولاياتالمتحدة سوى مصدر للإلهام والحكمة الإلهية. وشن هؤلاء حملة شعواء ضد ماكليلان عبر صحفهم ومحطات الإذاعة التابعة لهم، بل حتى المدونات التي يكتبها صغار المحافظين تساءلت بلؤم كبير لماذا استيقظ ضمير السيد ماكليلان فجأة ودون سابق إنذار، بعد سنوات طوال عمل فيها كخبير تجميل ماهر لسياسات بوش في المنطقة العربية ودون أن يرف له جفن. كما تساءل أصحاب هؤلاء المدونات عن المكان الذي ظل ماكليلان يخبئ فيه لسانه الطويل، عندما كان يصوم عن الكلام أمام الصحفيين الفضوليين الذين دأبوا على إمطاره بأسئلتهم المُحرجة خلال المؤتمرات الصحفية اليومية التي يعقدها البيت الأبيض. باختصار شديد، اتهمت الأوساط المحافظة ماكليلان بانعدام الضمير والاتجار بمنصبه السابق بهدف تحقيق مبيعات كبيرة لكتابه المثير للجدل. كما أن عددا من النقاد شبّهوا علاقة ماكليلان بإدارة الرئيس الأمريكي الحالي بالعلاقة بين مسؤول سياسي مشهور وعاهرة رخيصة، يتمتع معها السياسي "البارع" بالشهوة خلف الستار، لكنه يلعنها أمام وسائل الإعلام ويتهرب من الظهور معها في الأماكن والمناسبات العامة. لكن ماكليلان لم يصمت أمام هذا السيل الهائل من التخوين، واختار بعناية فائقة الأحداث التي تحدث عنها خلال المقابلات الصحفية العديدة التي يشارك فيها هذه الأيام، فقد قال إنه حاول مرارا ثني الرئيس الأمريكي عن التحدث عن تحقيق "تقدم أمني كبير" داخل العراق، في الوقت الذي كان فيه الجنود الأمريكيون يلقون حتفهم بالعشرات أسبوعيا، والمواطنون العراقيون يغرقون في موجة من الدم حصدت أرواح مئات الآلاف منهم. كما شبّه ماكليلان نائب الرئيس ديك تشيني ب"الشيطان" الذي يدير اللعبة السياسية من خلف الستار، والذي يرفض مجرد الإنصات إلى الرأي المخالف خلال الاجتماعات الرسمية بالبيت الأبيض... "حقيقة ما وقع" وَجّه صفعة قاسية إلى خد العاملين في بلاط صاحبة الجلالة من رجال الإعلام الذين اتهمهم ماكليلان بالكسل وعدم طرح الأسئلة الحقيقية خلال فترة ما قبل شن الحرب على العراق، بل إن ماكليلان قال إن بعض الصحفيين كانوا يثيرون غيظه عندما يتركون المواضيع الجادة ويسألونه عن مسائل تافهة في المؤتمرات الصحفية اليومية بالبيت الأبيض، لكنه لم يضع الصحفيين كلهم في سلة واحدة، واختار أن يؤكد أن هناك صحفيين بعينهم كان يحسب لهم ألف حساب ويستعد لأسئلتهم الصعبة لمدة طويلة، وأنه كان يشعر بتأنيب الضمير عندما كان يتهرب من الإجابة بشكل صريح ومباشر عن تساؤلاتهم الحائرة، وأنه كان يشعر بالفخر لوجود مثل هؤلاء وسط جماعة ممن وصفهم بالمعتوهين!