شكل المغرب عبر التاريخ فضاء جذب للكثير من الوافدين عليه، فهناك من اتخذه محطة انطلاق نحو فضاءات أخرى، وهناك من فضل الإقامة فيه. وتحتفظ ذاكرة أزقة ومقاهي وفنادق أشهر المدن المغربية، مثل طنجة، ومراكش، وفاس، والصويرة، بسجلات كاملة عن العديدة من الشخصيات الأجنبية المعروفة مثل غيره من الأدباء الأوروبيين والأمريكيين ارتبط الكاتب الفرنسي جان جينيه بالمغرب ارتباطا وثيقا، ففيه عاش حقبات مهمة من حياته، إذ كانت أول زيارة له للمغرب سنة 1931 عندما كان جنديا متطوعا في الجيش الفرنسي بمدينة مكناس. بعدما ضاق ذرعا من سجن القاصرين، الذي دخله بتهمة السرقة، وهو ما يزال في سن مبكرة، وفي هذا السياق يقول جينيه، الذي ولد عام 1910، في باريس لأبوين لم يعرفهما أبدا، وحمل لقب أمه غابريلا جينيه، التي تخلت عنه عند ولادته، "إن الشعور بالكرامة الذي يمنحه الزي العسكري للفرد، والعزلة عن العالم التي يفرضها هذا الزي، بالإضافة إلى مهنة الجندي نفسها، وهبتني قسطا من الراحة والثقة بالنفس، حتى ولو أن الجيش يوجد على هامش المجتمع، مما خفف من وضعي كطفل جرى إذلاله بشكل طبيعي". عاش جينيه تحت وصاية قسم المساعدات العامة، وأمضي معظم طفولته في ميتم خاص. وفي عمر السادسة أرسل إلى منظمة "مورفان" في فرنسا لينشأ تحت رعاية عائلة ريفية يقول سارتر " كان جينيه طفلا رقيقا يميل إلى التأمل والتطلعات الصارمة، لكن سرعان ما شرع بسرقة الطعام والنقود من عائلته الوصية عليه، ربما لأنه كان جائعا، وهذا ما علله نفسه لسرقاته الأولى". وفي رأي سارتر أن شعور الطفل جينيه بالفراغ الغريب، والمعاناة، والإحساس العميق بالعوز وعدم الاستقرار، لكونه طفلا غير شرعي، خاصة عندما كان يعيش في مجتمع ريفي تعتمد قيمه على ملكية الأرض والإرث الشرعي. وسوغ سارتر سرقة جينيه بوصفه طفلا استجاب لا شعوريا إلى وضعه الوجودي البائس. وفي العاشرة من عمره أطلق مجموعة من الكبار عليه كلمة "لص" كانت تجربة صاعقة جعلته يدرك فجأة أنها من "طبيعته الشريرة " وزاد من مأساة تلك التجربة قبوله إدانة الآخرين له. وتسليمه بقبول ما يراه العالم "إنه شخص لا بد أن يكون رديئا " وتوجه تدريجيا إلى ممارسة الشر والجريمة وبالولاء نفسه، الذي يتوجه في القديس إلى الفضيلة والطهارة. بين سنوات 1933-1942عاش جينيه حياة الفقر والتشرد، متنقلا في عدة بلدان أوروبية، إسبانيا وإيطاليا وألبانيا والنمسا وشيكوسلوفاكيا، وبولندا وألمانيا النازية، وأمضى مددا متكررة في السجن. وألقت به مغامراته إلى الإجرام. مارس السرقة وباع نفسه من أجل البقاء واتصل بأرباب السوابق والساقطات والقتلة، الذين وظفهم بعد ذلك نماذج لشخصياته، وامتلأت حياته بالإحداث وتجارب السجن، وأخذت تلقي بظلالها عليه. كما بدأ الكتابة وأنتج معظم أعماله في زنزانة السجن. وبشكل خاص "الرجل الذي حكم بالإعدام" وهي قصيدته الطويلة التي نشرت عام 1942، وروايته الأولى "سيدتنا ذات الأزهار"، التي نشرت أول مرة في مونت كارلو على نفقة شخص غير معروف. كان كوكتو أول من اكتشف جينيه وأصبح معجبا حميميا بأعماله الأدبية. وفي سنة 1942 التقى جينيه سارتر وتوطدت صداقة طويلة بينهما مبنية على عشق الحرية والاحترام المتبادل. ولولا المساعدة الأدبية والفكرية من سارتر، فإن جينيه ما كان ليحقق نجاحه السريع والأمن المالي النسبي، الذي بدا يتمتع به في الخمسينيات من القرن الماضي. في سنة 1948 حكم على جينيه بالسجن مدى الحياة، لأنه اقترف عدة جرائم سرقة ولعدم إمكان إصلاحه. لكن بتدخل من صحيفة "النضال" ومجموعة من الكتاب كوكتو، وسارتر منح العفو الرئاسي. قرر جينيه التخلي عن الجريمة تماما، وتمكن من خلال كتاباته الأدبية المتميزة من الانتقال تدريجيا من عالم أرباب السوابق إلى المجموعة الفنية والفكرية، لجيرمين دي بريه، التي قبل أعضاؤها بجينيه، رغم أنه لم يكن واحدا منهم. اشتهر جان جينيه بنضاله ودعمه لقضايا التحرر الوطني مثل القضية الفلسطينية والمقاومة الجزائرية، وحقوق المهاجرين المغاربة. دعم الفلسطينيين وعاش معهم في مخيماتهم، وشهد أيضا، مذبحة صبرا وشاتيلا، التي قضى فيها أربع ساعات متنقلا بين الجثث ووصفها في مقال نشرته مجلة "الكرمل" وصفا مؤلما جدا. كان يكره الغرب ويؤيد حركات التحرر في العالم أجمع، كان يجد في إسرائيل صورة للغرب المزروع في العالم العربي، إذ يقول في هذا الصدد مخاطبا الفلسطينيين "إسرائيل هي الغرب مزروعا في بلادكم". اختار جينيه العيش في المغرب، الذي كان محطته الأخيرة، فعندما شعر بنهاية حياته أوصى بأن يدفن في مدينة العرائش، وأن توزع تركته بين صديقيه لاعب السيرك عبد الله بنتاجا ومحمد القطراني، وابنه بالتبني، الذي أطلق عليه اسم عزالدين تأثرا بأحد المناضلين الفلسطينيين. وفي ليلة الرابع عشر من شهر إبريل 1986 لفظ جينيه آخر أنفاسه، في باريس فأصر محمد القطراني على تنفيذ وصية جينيه، ليدفن في مدينة العرائش، وفي البقعة التي كان يلعب فيها مع عزالدين، لتكون مثواه الأخير، وهي قريبة من المنزل، الذي اشتراه جينيه هدية لصديقة محمد القطراني، الذي بكاه مر البكاء وفي يأسه استقل سيارته، كانت هي الأخرى هدية من جان جينيه لأبي عز الدين، ليرتطم بشجرة ويلقى حتفه في حادثة كانت أقرب إلى لانتحار.