خلال هذا الشهر تحتفل الأوساط الفرنسية بمئوية جان جينيه، أحد أكثر الكتاب حضوراً، ليس في فرنسا فحسب، بل في العالم، السجين واللص الذي قال عنه جان كوكتو «إنه أكبر كتّاب عصره»، وخصص له جان بول سارتر كتاباً من ستمئة صفحة بعنوان «القديس جان جينيه»، حوّل المقصي والمرفوض والملغى والمترفع عنه إلى أدب كبير، وتحوّل هو نفسه من لقيط ومتشرد إلى إحدى ظواهر الأدب الفرنسي في القرن الماضي. ولد جان جينيه في 19 ديسمبر من عام 1910، وتكريماً لذكراه تقوم دار غاليمار بإعادة طبع وتوزيع مجموعة من أعماله الشهيرة، من بينها كتاب «البهلوان» الذي خصصه لصديقه عبد الله لاعب السيرك، كما ستصدر لأول مرة مراسلاته غير المنشورة، إضافة إلى مجموعة من الكتب ألفها عنه كتّاب آخرون، مثل «جان جينيه رقم قيد 192.102» لباسكال فوشي وألبرت ديشي، ويسردان من خلاله تجربة الكاتب في مرحلة التطوع العسكري، و«جان جينيه، الكاذب الرائع» للطاهر بنجلون الذي جمعته به آصرة الصداقة خلال السبعينيات، ويستعيد بنجلون تجربة الشاعر في العمل السياسي وعلاقته بالفهود السود والألوية الحمراء، ودفاعه عن الفلسطينيين. كما تعيد دار غاليمار نشر كتاب سارتر «القديس جان جينيه، الممثل و الشهيد» الذي صدر أول مرة سنة 1952. أما دار دينوي فتنشر كتاباً جديداً بعنوان «انتحار جان جينيه»، ويقف فيه مؤلفه على تفاصيل محاولة انتحار الكاتب سنة 1967. وسيعرف الوسط الأدبي الفرنسي مجموعة من اللقاءات الثقافية والأمسيات القرائية خلال الأسبوع الحالي والأسابيع المقبلة احتفاءً بكاتبها المثير للجدل، والمستفز ليس في أعماله الروائية والمسرحية فحسب، بل في حواراته أيضاً وفي مكاتباته الخاصة لأصدقائه: وعلى الأخص منهم سارتر وسيمون دو بوفوار وجان كوكتو وفيوليت ليدو. والغريب أن فرنسا التي تحتفل بجان جينيه اليوم، والتي احتفلت بطريقة خاصة قبل سنوات بالذكرى العشرين لوفاته، هي فرنسا التي عاش جان جينيه يتبرأ منها، ويعتبر أن الخيط الوحيد الدقيق الذي يجمعه بها هو خيط اللغة. طفل خارج القانون حين سئل جينيه عن بدايته الأدبية، وعن المكان الذي تعلم فيه الكتابة لم يتردد في ذكر إصلاحية «ميتراي»، التي قضى فيها جزءاً من حياته كطفل خارج عن القانون، فهناك عثر بالصدفة على ديوان الشاعر الفرنسي بيير دو رونزار (1524-1585) فكان أول منارة تستدرجه إلى ميناء الأدب. وسيتحدث عن «ميتراي» وعن الأسباب التي قادته إليها، وعن طبيعة الحياة القاسية التي عاشها هناك من خلال عدد من الأعمال السردية، سيما «يوميات لص» و«معجزة الوردة ». فالطفل الذي كان مجهول الأب، والذي تخلّت عنه أمه غابرييلا جينيه بعد أشهر من ولادته سيجد نفسه في ملجأ للأيتام ومن ثم إلى أحضان أسرة ريفية، وحين سيبلغ عامه الرابع عشر سيتحوّل إلى مشاغب ومتمرد يصعب ضبطه، وسيلقى عليه القبض ليعهد به إلى إصلاحية ميتراي، وكي يتخلص من جحيم الحياة هناك تطوع قبل الوقت في الخدمة العسكرية لمدة سنتين. وفي عامه العشرين سيذهب إلى سوريا للمساهمة في بناء قلعة عسكرية، وسيتطوع مرة أخرى للعمل في الجيش الفرنسي داخل المغرب، ثم سيهرب من الجندية ليواصل تسكعه عبر العالم. غير أنه سيعود نهاية الثلاثينيات إلى باريس ليتحول إلى لص يسرق بعض الأشياء التي لا يسرقها أحد، فعدد من مسروقاته كان عبارة عن كتب، ثم إن حياته القاسية كمتشرد وكمنبوذ ستكون سبباً في دخوله إلى عالم الجريمة، لذلك سيزج به في السجن لتكون تلك هي فرصته للكتابة، وهناك سيبدع عمله الروائي المدهش «سيدتنا ذات الأزهار»، إضافة إلى نصه الشعري الطويل «الرجل الذي حكم بالإعدام». وتبقى كلمة «لقيط» إحدى أكثر الكلمات تأثيراً على الحياة الأدبية لجينيه، فثمة رغبة دائمة في الانتقام من شيء ما، تستعاد باستمرار كلما تعرض للإهانة، وكلما تذكر ما كان يقع له في طفولته بسبب هذا القدر الذي لم تكن له يد فيه، ففي سنواته التعليمية الأولى كتب أحسن نص في الفصل يصف البيت الذي يعيش فيه، وقد أشاد مدرّسه بالنص واحتفى به، غير أن الأطفال سيهزؤون منه مؤكدين للمعلّم أن البيت الذي يصفه ليس بيته، لأنه أصلا لقيط. وسيفضل حينها أن يغادر الفصل وهو في الثالثة عشرة ليعيش متشرداً بدل أن يبقى تلميذاً متفوقاً في مدرسة لا تجد حرجاً في جرح مشاعره، هو الذي قال «ما من مصدر آخر للجمال غير تلك الجراح المتفردة، المختلفة بالنسبة لكل واحد، المخفية أو الظاهرة التي يكنها كل إنسان في نفسه ويحفظها في داخله ويرتد إليها حينما يريد مغادرة العالم الى عزلة موقتة وعميقة»، وبالفعل استطاع صاحب «معجزة الوردة» أن يحول جراحه إلى جمال فريد، تجلى في معظم أعماله الأدبية التي نالت نصيباً واسعاً من الشهرة. بين طنجة وشاتيلا كان جان جينيه يعشق طنجة ويعتبرها المدينة التي يمكن أن يجد فيها الكاتب ذاته، وكان يظهر هذا العشق ويضمره، وفق مزاجه طبعاً، لكنه لم يكن يشكو من التحولات الطبيعية التي تطرأ على المدينة كما كان يفعل الأمريكي بول بولز مثلا، فصاحب «السماء الواقية» كان يريد طنجة التي رسمها في خياله، بينما كان جينيه يريد طنجة كما هي بجمالها ونقيضه، بسحرها وبفوضاها أيضاً. ولم يكن هناك كاتب عالمي يصل إلى طنجة دون أن يبحث عن جينيه الذي صار واحداً من أساطير المدينة. وفي كتاب شيق ألفه محمد شكري بعنوان «جان جينيه في طنجة» يسرد تفاصيل الوقائع التي ربطته بالكاتب خلال إقامته في فنادق المدينة وخلال تسكعه في شوارعها وحاناتها. عرف عنه كرمه وطرافته وحبه للمتشردين والفقراء ومعاشرته للبسطاء بالرغم مما كان يغلف حياته المغربية من عزلة، تجوّل جان جينيه كثيراً وعاش في العديد من البلدان، لكنه أحبّ المغرب بشكل خاص جداً وفريد، وما من دليل على ذلك أوضح من تمنيه الموت في طنجة، مات بعيداً عنها في باريس ولكنه أوصى في أيامه الأخيرة بأن يدفن على مقربة منها، إذ لا يزال قبره في مدينة العرائش شاهداً كبيراً على ذلك. ويبقى كتابه «أربع ساعات في شاتيلا» أقرب مؤلفاته إلى ذاكرة القارئ العربي، فقد عاش أشهراً مع اللاجئين الفلسطينيين، وكان أول أجنبي يصل المخيم مباشرة بعد تعرض سكانه للتقتيل، يقول في هذا الكتاب واصفاً تلك الجريمة البشعة التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي في حق اللاجئين: «إن قاتلين قد أنجزوا العملية لكن جماعات عديدة من فرق التعذيب هي في غالب الظن التي كانت تفتح الجماجم وتشرّح الأفخاذ، وتبتر الأذرع والأيدي والأصابع وهي التي كانت تجر بواسطة حبال محتضرين معوقين رجالاً ونساءً كانوا لايزالون على قيد الحياة».