كانت مدينة «تور» الفرنسية قد خصصت له معرضا كاملا، كان معرضا احتفائيا، نظمته بالشراكة كل من المكتبة الوطنية الفرنسية ودار النشر «غاليمار» ولوران بويير، المسؤول عن تنفيذ وصية جان جينيه. وتمت استعارة مخطوطات رواياته مثل «أسير عاشق» التي نشرت بعد أشهر من رحيله، بالاضافة الى عرض كتابات غير منشورة له عن القضية الفلسطينية كتبها خلال السبعينات، ونسخة من سيناريو فيلم «أنشودة حب»، ومقالات وبحوث كثيرة، مثل الرسائل التي بعث جينيه بها الى صديقه النحات «جياكوميتي»، ولوحات رسمها له هذا الفنان، وغيرها من الرسوم التي خططها له جان كوكتو أو ليونور فيني أو الممثل جان ماريه. وكان جينيه قد خالط الفنانين وكتب عن الفنون التشكيلية، في الخمسينات من القرن الماضي، نصوصا لم تحظ بالشهرة التي لاقتها رواياته ومسرحياته. وكان يومها يتردد على مشغل جياكوميتي ويمضي معه حصصاً للرسم كان من حصيلتها أن أنجز له الفنان أربعة تخطيطات وثلاث لوحات. ويعرض متحف تور ثلاثة من هذه الأعمال، بينها واحدة كبيرة من مقتنيات مركز جورج بومبيدو، استغرقت من جينيه أكثر من أربعين يوماً من الجلسات المتواصلة التي كتب عنها يقول في إحدى الرسائل الى الفنان: «سآتي قريباً ببدلتي الرمادية الفاتحة لكي تكمل لوحتك الرائعة. وكلما فكرت في رسمي هذا وفي تحولاته اليومية العجيبة ازداد اضطرابي». وكان من نتيجة تلك التجربة أن كتب جينيه عام 1957 نصاً في ثلاثين صفحة بعنوان «محترف البيرتو جياكوميتي»، هو بمثابة «حوار بين عزلتين»، وتلمس لأسرار العملية الابداعية في الرسم، وتعبير عن محبة جينيه للرسام الوحيد الذي استحوذت أعماله على إعجابه. ولد جنيه في 19 دجنبر 1910 من أب مجهول وأم تخلت عنه بعد 7 أشهر من ولادته، وعهدت به إلى دائرة اليتامى، التي قدمته الى زوجين في قرية «لينيي»، وظل في عهدتهما حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره. وبعد سلسلة من التمردات والتوقيفات، تذوق الفتى جان، مرارة السجن للمرة الاولى في معتقل «لا روكيت»، حيث أمضى ثلاثة أشهر في زنزانة انفرادية. ولما خرج، أعيد احتجازه لركوبه القطار بدون تذكرة بين باريس وبلدة مو. وقد عهد به القاضي الى الاصلاحية الزراعية في «ميتراي». ولكي يغادر الاصلاحية، استبق جينيه استدعاءه للخدمة العسكرية وتطوع في الجيش لمدة سنتين. وفي عام 1930 سافر الى سورية وأقام في دمشق حيث ساهم في تشييد قلعة عسكرية صغيرة. وفي السنة التالية عاد الى الحياة المدنية وقام بأولى رحلاته الى اسبانيا قبل أن يتطوع مجدداً في الجيش ويسافر للخدمة في المغرب. بعد انتهاء الخدمة العسكرية، عاد ليتسكع في اسبانيا. ولأن الحرب العالمية الثانية قد انطلقت فقد تم استدعاؤه للإلتحاق بصفوف الجيش الفرنسي، لكنه رفض، فاعتبر هارباً من الخدمة. وللتخلص من الملاحقة، قام جينيه برحلات عديدة في اوروبا، وحال عودته الى باريس عام 1937 ارتكب عدة سرقات تافهة ( سرقة مناديل وقمصان وكتب)، سدد ثمنها من حريته حيث كان يقبض عليه ويحاكم ويسجن. وفي سنة 1942، وهو في السجن، كتب كتاب «سيدة الأزهار»، وقرأ النص جان كوكتو بعد ذلك بسنة، وبفضله تعرف جينيه الى أول ناشر في حياته، بول موريهيين. وفي العام الموالي ألقي عليه القبض مجدداً لسرقته طبعة نادرة من كتاب «أعياد رقيقة» لفيرلان. وكتب كوكتو في مذكراته أن القاضي لما سأل جينيه: «هل تعرف ثمن الكتاب؟»، رد المتهم: «أعرف قيمته ولا أعرف سعره». وبسبب تكرار السرقات كان يتهدده خطر السجن المؤبد، لكن كوكتو تدخّل لصالحه واصفاً إياه في المحكمة بأكبر كاتب في العصر الحديث. وانتهت القضية بثلاثة أشهر من السجن، كتب خلالها «معجزة الوردة». وبفضل العديد من المناشدات اطلق سراح جينيه عام 1944 فكتب «دفن الموتى» بعد أن فجع بمصرع صديقه المقاوم الشيوعي الشاب جان ديكارنان، وتوالت بعدها مؤلفاته. اتجه جينيه الى الكتابة السياسية في وقت متأخر، ونشر مقاله السياسي الأول «عشيقة لينين» في مجلة «النوفيل اوبسرفاتور» في ربيع 1968، وفيه أثنى على زعيم انتفاضة الطلبة، آنذاك، دانييل كوهين بنديكت. وفي العام نفسه سافر جينيه الى الولاياتالمتحدة بدعوة من مجلة «سكواير»، وأعلن تأييده لحركة الفهود السود التي تدافع عن حقوق الأميركيين من أصول أفريقية. وفي عام 1970 التقى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ووعده بتقديم الدعم للقضية الفلسطينية. وبفضل اهتمامه بالفلسطينيين كان واحداً من أوائل الغربيين الذين دخلوا الى مخيم شاتيلا بعد المجزرة التي نفذتها الكتائب فيه عام 1982. وكان من نتاج تلك الجولة نص كابوسي بعنوان «أربع ساعات في شاتيلا». كان جينيه مريضاً بالسرطان ( على مستوى الحنجرة) وتوفي وحيدا في غرفة صغيرة بفندق باريسي، حيث كان يصحح مسودات كتابه « أسير عاشق». ودفن في مقبرة مدينة العرائش بالمغرب تنفيذا لوصيته، مقابل البحر في البلد الذي أحبه وعاشر أهله.