لا ينازع أحد في أن دستور يوليوز 2011 وضع المجتمع المدني المغربي في قلب البنيان الدستوري للبلاد. ويعد ذلك تتويجا لمسلسل مجتمعي طويل قائم على استقلالية الفاعلين ومصداقية المتدخلين. وهو أيضا تجسيد مؤسساتي لمشروع ملكي، ذلك أن صاحب الجلالة لم يتوان عن العمل من أجل النهوض بالمجتمع المدني وتشجيعه وتوطيد دعائمه منذ اعتلائه العرش. الواقع أن مواد الدستور، وخصوصا المادة 12 وما يليها، التي تضع المجتمع المدني في قلب الآلة الدستورية المغربية، عديدة وواضحة. هذه المواد تستحق لوحدها دراسات أكاديمية عديدة بالنظر إلى كونها غير مسبوقة ومبتكرة في المنطقة. إنها مفتاح دينامية مجتمعية ترسخت باطراد منذ عقود عدة. وإن كان للمرء، في غمرة تخليد عيد العرش، أن يعرض حصيلة لتصاعد قوة جمعيات المجتمع المدني في الحقل الاجتماعي المغربي، فإنه سيلاحظ بسهولة أنه ما من مخطط لأي نشاط في البلاد بات يخرج عن نطاق الفاعلية الحيوية للجمعيات. ما يناهز 50 ألف جمعية تنشط في جميع مجالات الحياة الجماعية، مع ملاحظة لافتة تفيد أن أربع جمعيات من عشر تأسست منذ إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة 2005. ووفق دراسة ممتازة للمندوبية السامية للتخطيط في هذا الشأن، فإن بحثا وطنيا شمل المؤسسات، التي لا تهدف إلى الربح، وأنجز عام 2007، كشف أن أنشطة الجمعيات تغطي أساسا ميادين التربية والمجتمع والصحة والرياضة والترفيه والدفاع عن الحقوق والتنمية والسكن. لكن نلاحظ، أيضا، أن مبادرات النسيج الجمعوي تظل مركزة حول مجالات "التنمية والسكن" ( 35,2 في المائة من الجمعيات) وأيضا "الثقافة والرياضة والترفيه" (27,1 في المائة). إن حيوية هذه الحياة الجمعوية، كما كان يقال سابقا، هي المؤشر الحقيقي الوحيد للتطور الحاصل في مجال تعزيز الديموقراطية ودولة القانون في بلد ما. ومن هذه الزاوية بالضبط، بإمكاننا اعتبار أن بلدنا قطع شوطا مهما نحو بناء الديموقراطية، في مجمل امتداد ترابه الوطني بما في ذلك أقاليمه الجنوبية. ففي أي مكان يحس فيه المواطنون بضرورة أن ينتظموا، في إطار ديموقراطي، للدفاع عن مشروع ما، أو حساسية أو مصلحة أو قضية، فإنهم يمارسون ذلك بكل حرية وبضمانات دستورية مهمة. فالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، كآلية ذاتية ومستقلة وفق المعايير الدولية، التي يطلق عليها معايير باريس، يعمل، من جهته، من أعلى هذا الهرم حتى تظل حقوق الجميع محمية ومصانة. وقد نوهت شهادات المراقبين الدوليين الأكثر مصداقية مرات عديدة بالعمل المنجز من قبل هذه المؤسسة الدستورية الفتية والحيوية. لكن في الجوهر، وهنا نكون في قلب الموضوع، فإن هذه الدينامية تستمد كل زخمها من المشروع الحداثي والمفجر للطاقات لصاحب الجلالة الملك محمد السادس. وتكفي بعض الأمثلة للدلالة على ذلك: خطاب أجدير في سنة 2001، وإصلاح مدونة الأحوال الشخصية في 2003، وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في 2005، وإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 2005. فكل هذه اللحظات المهمة في حياة الأمة والتي تحيل إلى مبادرات اتخذها جلالة الملك تشمل بين ثناياها خلق المئات من الجمعيات التي يكون هدفها الرئيسي، الحرص على عيش مواطنة متجددة، واقتحام فضاءات جديدة للحرية، وتعزيز المكتسبات وإطلاق المشاريع. ففي المدن، والقرى، والدواوير، والبلدات الصغيرة، والمناطق الهامشية المجاورة للمدن الكبرى، رأت جمعيات النور لتتولى الإشراف على سير مشاريع، والدفاع عن الحقوق، وتحسين ظروف العيش، أو تعبيرا عن العيش المشترك على النمط المغربي الحقيقي - القائم على قيم المشاطرة والتضامن والتسامح - الذي وجد تجسيده في المشروع المجتمعي الذي يميز عهد جلالة الملك محمد السادس. ونشير مرة أخرى في هذا الصدد إلى أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لوحدها أثمرت قيام مئات بل وآلاف المبادرات الجمعوية التي تعنى كلها بشكل أساسي بإحقاق الكرامة للإنسان والوسائل والموارد التي تقتضيها استعادة هذه الكرامة. إن إنسانا يتوفر على دخل خاص به ونشاط يمنحه مؤهلات، هو إنسان يستعيد كرامته وسط أسرته. وإن شخصا مصابا بفقدان البصر يستعيد بصره بفضل عملية بسيطة لإزالة التكثف في عدسة العين هو شخص يسترد في الوقت نفسه بصره ومكانته في المجتمع. والأمر نفسه بالنسبة لامرأة معنفة يتم التكفل بها، ولشخص معاق يتلقى علاجا يخلصه من إعاقته، ولجمعية تصير جمعية ناجحة، ولشباب يسود التضامن في ما بينهم في الحي الذي يقطنون فيه، ولمجموعة يتم إنقاذها من العزلة والمعاناة التي يتسبب فيها الإدمان، ولنساء انخرطن في تنظيم خاص بهن حول مشروع معين. فكلما ظهر مشروع، إلا ووجدنا وراءه جمعية نشيطة ومواطنين ذوى حس مدني انخرطوا في خدمة الآخرين ووضعوا أنفسهم رهن إشارتهم. إن هذه الطاقة الهائلة هي التي فجرها جلالة الملك لتخترق المجتمع المغربي برمته. إننا نخلد ذكرى عيد العرش الذي كان في الأصل عيدا للتحرير، مادام أن الاحتفال به كان بمثابة لحظة مقاومة ضد الاستعمار، وكان عيدا للمجتمع المدني في تلك الفترة، حيث أن الاحتفال بعيد العرش كان يجري بقيادة الحركة الوطنية، وكان عيدا للأحياء السكنية، ولعامة الناس، للدواوير وللمدن والقرى، وللمواطنين بكل بساطة. إن إبراز حصيلة المجتمع المدني في هذه المناسبة السعيدة، التي هي عيد العرش، هو في الواقع إعطاء هذا الحدث الوطني، الذي هو عيد لكافة المواطنين ملتفين وراء جلالة الملك، بعده الحقيقي ومدلوله القوي. إن مفهوم " الالتحام " الذي لا يتم تفسيره جيدا في بعض الأحيان أو الذي يتم استعماله بشكل مختزل لا يمكن إدراكه في حقيقته إلا من خلال العودة إلى الأصل الشعبي لهذا العيد وإلى الطابع النضالي الذي كان وراء قرار الاحتفال به. هو احتفال المجتمع لمقاومة مظاهر الاضطهاد والغبن، إنه عيد الشرعية والكرامة. إنه، بشكل أخص، عيد مواطنة نشطة وملتزمة متعلقة بمؤسساتها الشرعية، قادرة على الاضطلاع بكل الالتزامات، كما في الماضي، من أجل حمايتها. لا أحد من بين المراقبين الكبار، يمكنه فهم الملكية المغربية والديموقراطية التي هي بصدد ببنائها في محيط جهوي يجتاحه تسونامي فوضوي ومتعذر القراءة يطلق عليه "الربيع العربي"، إن هو لم يأخذ بعين الاعتبار، على المستوى الفكري، هذا البعد المرتبط بالشرعية، الذي يؤسس الأمة المغربية.