أحيت جمعية بانا البساط للفنون والتراث، نهاية الأسبوع المنصرم، بأحد الرياضات العتيقة بحي باب دكالة بمدينة مراكش، الدورة الخامسة من ليلة عاشوراء التي دأبت الجمعية على إحيائها كل سنة، بمشاركة فرق فلكلورية متخصصة في الدقة المراكشية تنتمي إلى مختلف أحياء مدينة مراكش. استمتع الجمهور الحاضر بأفضل الأغاني المستوحاة من التراث الشعبي لعاصمة النخيل من طرف رواد فن "التقيتيقات"، من قبيل محراش "أمين النفارة "، ومهري القيدوم، الذي عاش فترة طويلة مع حميد الزاهر، وعمر منسوم من أبرع الدقايقية بمراكش، وروينبة عبد الكبير لشهب من رواد "الموازنية "ومبدعي طقيطيقات بمراكش، وصانكيل عبد الرزاق الدقايقي، وبوجمعة القراقبي المتخصص في الدقة، ويوسف الصريدي، مقدم عيساوة رغم صغر سنه. وعلى أنغام الدقة، و"تقيتيقات" عبد الرحيم بانا، ومستملحات مجموعة من أبناء مدينة مراكش وقاطنيها، الذين تناوبوا على تنشيط الحفل بشكل تلقائي، وبعفوية مطلقة استطاعت أن تكسر برودة الطقس، وإضفاء حرارة على الأجواء الاحتفالية، وتكريس تقاليد رمزية تاريخية ذات حمولة ثقافية كبيرة جعلت المدينة الحمراء وسكانها يكتشفون أحد مكوناتها الروحية وهويتها الجماعية. وعاش عشاق الدقة المراكشية، لحظات متميزة من الغناء واللوحات الفنية المستوحاة من الفلكلور الشعبي تتغنى بالأشعار المستلهمة من التراث المراكشي الأصيل، في حفل فني مميز حضره نخبة من أبناء مدينة سبعة رجال، المولعين بالتراث الشفهي وما تزخر به مدينة مراكش من تقاليد وأعراف، بعضها مازال يفرض ذاته، رغم المتغيرات والتحول الطارئ على بنية المجتمع وما تشهده الحياة اليومية من تعقيدات تقتل المرح وتقضي على روح الفكاهة. وكانت أقوى لحظات الحفل الفني الذي استمر لأزيد من ثلاث ساعات، أغاني رواد "التقيتيقات" التي تكرس تقاليد الثقافة الشعبية المراكشية، والأغاني التي رددها عبد الرحيم بانا بلغات مختلفة ألهبت حماس الجمهور الحاضر وعدد من الفعاليات والمهتمين بالتراث الفني الأصيل، من خلال لوحات فنية رسمها بتموجات جسده شدت إليها أنظار الجمهور. وكان أبناء مراكش وأغلبهم من الصناع التقليديين والحرفيين والتجار البسطاء يستغلون يوم الجمعة وهو يوم راحة بعد أسبوع عمل مضن للخروج إلى المنتزهات للترويح عن النفس، وكانوا يحرصون على أن يطبع اللقاء جو احتفالي غني بالمستملحات وما يدخل البهجة على النفوس، كما كانت الوجبة المفضلة هي الطنجية المراكشية، التي يجري إعدادها وفق طقوس خاصة، سواء على مستوى مكونات الوجبة أو طريقة طهيها. وإذا كانت مشاغل الحياة اليومية وتعقيداتها قلصت من نسبة الخرجات الترفيهية، كما أن العديد من الفضاءات الخضراء قضى عليها الاسمنت المسلح، ولوث هواءها الدخان والغازات السامة، إلى جانب غلاء المعيشة، وانشغال الناس بالقوت اليومي وبمشاكل العصر الحديث، فإن السمة التي تطبع أبناء مراكش (جيل الأربعينيات وما فوق) هو تشبثهم ببعض الخصوصيات التي تميز مدينة مراكش عن باقي المدن المغربية والتي ترتبط بنوع من ("التقشاب" و"المشايشة" و"هرمة" وزين الكلام الموزون). وفي هذا الصدد، قال عبد الرحيم بانا، رئيس جمعية "بانا البساط للفنون والتراث"، إن إحياء ليالي عاشوراء يعد حدثا ذا دلالة رمزية ومناسبة لتخليد وإعادة إحياء فن الدقة المراكشية وبعض الطقوس التي ظل يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، وهي تقاليد لم تكن محصورة بين الذكور فقط، فالنساء أيضا كن يحيين ليالي عاشوراء، مرددات شعار "هذا عاشور ما علينا حكام، في عيد الميلود يحكم الرجال"، وهي إشارة مبطنة إلى أهمية الحدث وقيمته المعنوية بالنسبة إلى أفراد الأسرة، ذكورها وإناثها، صغارها وكبارها، وكذلك شيوخها. وأضاف بانا، في تصريح ل"المغربية" أن ليلة عاشوراء التي تتزامن مع اليوم العاشر من شهر محرم من السنة الهجرية، تتميز باحتفالات متنوعة في مختلف أحياء المدينة العتيقة لمراكش، التي تعيش مع حلول اليوم الأول من شهر محرم على إيقاعات الدقة المراكشية، في شكل حلقة تدعى عند أهل مراكش ب"الكور" يردد خلالها الممارسون "العيط"، الذي يتغنى بسبعة رجال والأولياء الصالحين والرسول الكريم وطلب المغفرة باستعمال آلات موسيقية تقليدية تتمثل على الخصوص في (الطعريجة والقراقب والبندير). وكانت مدينة مراكش بعد مرور ليلة العاشر من شهر محرم، تشهد تنظيم حفل بهيج يعرف لدى المراكشيين، ب"النزاهة" يمول بواسطة تبرعات الأعيان والأغنياء، ويجري اقتناء عجل ويغادر الدقايقية سور المدينة التاريخي في اتجاه عرصة من العراصي التي كانت محاطة بمدينة مراكش والتي لم يبق لها أثر اليوم، لقضاء أيام النزاهة في جو من التنشيط والفكاهة وتبادل النكت وترديد أغاني الملحون.