رغم أنها أمضت 20 سنة وسط الجثث والعيش يوميا مع الموت، إلا أن الدكتورة فريدة بوشتة، رئيسة مركز الطب الشرعي "الرحمة" بالدارالبيضاء، ما زالت تتفرد بقوتها المعهودة، التي مكنتها من سبر أغوار عالم يتهرب منه الرجال قبل النساء لتكون أول امرأة في المغرب تحمل على عاتقها مهمة استنطاق الجثث، بهدف تعبيد الطريق أمام العدالة لتقول كلمتها، دون ترك أي مجال للشك. حياة فريدة الفريدة لكل واحد منا تجربة وفكرة عن الموت، لأنه موجود في کل مكان وزمان، غير أننا نسعى جاهدين إلى طرد ذكرى فقدان أحد المقربين منا، ولم لا نسيانها حتى لا تكون لها انعكاسات على مسار حياتنا. ويعد النسيان من النعم التي لا يعرف بحقها، إلا من يجد نفسه يعيش حياته يوميا مع الأموات، ويتقاسم مع عائلاتهم أحزانها. هذا الأمر ينطبق على الدكتورة فريدة بوشتة، التي ارتدت الوزرة البيضاء، لأول مرة، وكلها رغبة في منح الحياة للمرضى، قبل أن تجد نفسها تبحث عن إجابات لأسباب الموت. في مكان يسود فيه الصمت ولا يسمع فيه إلا لصرير الأبواب وفتح الثلاجات، تعيش الدكتورة فريدة حياة فريدة، لا يتحملها إلا ذوو القلوب القوية. فبرودة الأجساد والمركز، يجعلان كل من يلج هذا الفضاء، يحس بشيء غريب يسري في أوصاله، وكأنه في قاعة انتظار، قبل العبور إلى العالم الآخر. جثث في بعض القاعات وأخرى داخل الثلاجات، غير أن هذا المنظر لم يفقد العاملين في المركز تلك الابتسامة الجميلة، وفي مقدمتهم الدكتورة فريدة بوشتة. ولم تكن الابتسامة وحدها الشيء المميز داخل الفضاء، بل أيضا، تلك الأجواء الدينية التي عمدت الدكتورة فريدة إلى توفيرها، من خلال تخصيص قاعتين للصلاة للرجال والنساء، إلى جانب اقتناء صحن مقعر وتلفزة مثبتة على إحدى القنوات المخصصة لتلاوة القرآن. الاستقبال البشوش للدكتورة فريدة، والطاقم الذي يشتغل معها، لا يخفي تلك الخدوش التي تسببت فيها بعض الحالات الاستثنائية، التي تركت ذكريات حزينة في نفوسهم، أو كانت وراء التأثير في نفسيتهم، خصوصا وفيات الأطفال. تقول الدكتورة فريدة "عشنا مع بعض الحالات أجواء استثنائية، خاصة الأطفال، الذين ما زالت صور بعضهم مرسومة في ذاكرتنا". وتتوفر فريدة على 20 سنة من الخبرة في مجال الطب الشرعي، وهي الخبرة التي يجب استثمارها والاستفادة منها كثيرا، خصوصا أنها اكتسبت من الميدان ما قد لا تجده في الجامعات والمعاهد. مسار مليء بالأحداث دخلت فريدة بوشتة عالم التشريح والطب الشرعي بالصدفة، إذ عندما كانت ترافق رئيسها في العمل في زيارة إلى مصلحة الطب الشرعي في مستشفى عين الشق سنة 1989، أثارت فضولها عملية تشريح جثة، فقررت ولوج هذا العالم. سافرت فريدة إلى باريس، حيث حصلت على شهادة التخصص في مجال الطب الشرعي، قبل أن تعود إلى المغرب، لتبدأ مهمتها الجديدة، التي لم تكن سهلة في بدايتها. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يتسرب العياء إلى جسد الدكتورة فريدة، التي التقيناها، عند زيارتنا للمركز، وهي تهم بالنزول من سيارة الإسعاف. تحمل ذكريات متعددة عن بعض الأحداث الأليمة التي عاشها المغرب، منها الاعتداءات الإرهابية، تطلبت منها مجهودا إضافيا، رفقة الطاقم الذي يشتغل معها، إلى جانب الحريق الذي شب في معمل بمنطقة ليساسفة في الدارالبيضاء، وهو الحادث الذي تطلب إطلاق حالة استنفار داخل المركز، وعملا خرافيا لإنهاء عملية تحديد هويات الضحايا. هذه الحركية المتواصلة، لا تقتصر على المركز فقط، بل إن المهام التي تطلع بها الدكتور فريدة أكثر من ذلك، إذ أنها يجب أن تبقى دائما على استعداد لأي اتصال، حتى في الليل، من أجل الانتقال إلى مسرح الجريمة، أو مكان عثر فيه على جثة. وتشرح الدكتورة فريدة ما يقارب 4 جثث يوميا، كما أنها تنتقل في بعض الأحيان إلى مدن أخرى من أجل تقديم إفادتها أمام القضاء في بعض الوفيات الغامضة، غير أن هذا لا يحجب ذلك الدور الكبير الذي يقوم به باقي أفرد طاقمها، الذين تعتبرهم "جنود خفاء". كما أن الدكتورة فريدة، التي لا تخفي بأن المهمة التي تقوم بها هي نتاج عمل فريق متكامل، تشرف على دورة تكوينية لعناصر من مصالح مختلفة. يشار إلى أن الدكتورة بورقية تابعت دراستها في ثانوية ليوطي بالدارالبيضاء، قبل أن تسافر، بعد حصولها على البكالوريا، إلى فرنسا، ثم عادت لمتابعة دراستها بين الدارالبيضاء والرباط، إلى أن حصلت على الدكتوراه في الطب بالرباط، وبعد ذلك حازت دبلوم الطب الشرعي من فرنسا. مهام متعددة للمركز يقع مركز الطب الشرعي بطريق مولاي التهامي "غير بعيد عن مقبرة الرحمة" بالدارالبيضاء. ويمتد المركز، الذي يجري فيه تشريح 1800 جثة سنويا، على مساحة هكتار ونصف الهكتار، جزء منه تحول إلى مجال أخضر مزين بحدائق تلف به من كل جانب، والجزء الآخر يضم بنايات توجد جثث تنتظر دورها في الدفن. وتفد على المركز يوميا جثث من المناطق المختلفة لولاية جهة الدارالبيضاء، وفي بعض الأحيان من مدن بعيدة، بناء على طلبات النيابة العامة. ويعد من أكبر مراكز الطب الشرعي بإفريقيا، إذ أنه يحتوي على 16 قاعة للتبريد كل واحدة منها ذات قدرة استيعابية تتراوح بين عشر وخمسين جثة في حالة الطوارئ، كما توجد به 120 قمطرا للمحافظة على الجثث في درجة تبريد تسمح بعدم تعفنها والمحافظة على مقوماتها. كما يضم المركز مختبرا لإجراء تحاليل التسمم، وهي الآلية التي تسمح بتحليل معطيات من الجثث للوصول إلى حقيقة الوفاة وكشف المواد التي وقعت بواسطتها. ويتعامل مركز الطب الشرعي، التابع لمجلس مدينة الدارالبيضاء، مع مصالح الشرطة والدرك والقضاء، وهي الجهات المخول لها طلب تدخل المركز لنقل أية جثة مشكوك في سبب وفاتها. ووصل عدد الجثث التي استقبلها المركز، منذ البداية العلنية لاشتغاله، ما مجموعه 8494 جثة إلى نهاية سنة 2009. وكشفت المعطيات المتوفرة أن سنة 2005، عرفت استقبال 1547 جثة، قبل أن يرتفع الرقم، في سنة 2006، ب 69 جثة، ليصل، في السنة الموالية، إلى 1811. أما سنة 2008، فقز فيها عدد الجثث، التي استقبلها المركز، إلى 1874.