في إشارة قوية الدلالات، بوأ مشروع الدستور المغربي الجديد، الذي سيقول الشعب المغربي كلمته فيه، خلال الاستفتاء المقرر في فاتح يوليوز المقبل، الحقوق والحريات، كما هو متعارف عليها دوليا، مرتبة رفيعة، جعلتها، بحق، واسطة عقده، وخيطه الناظم. فقد شكل الحضور الوازن لهذه الحقوق في القانون الأسمى للمملكة، من التصدير وحتى آخر فصل منه، السمة الأبرز، التي تنم عن إرادة قوية لإعلاء شأن هذه الحقوق، في مختلف تجلياتها، والسعي إلى طي صفحة الماضي الأليم لحقوق الإنسان، التي مازال البلد يجر تبعاتها إلى اليوم. "التشبث بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا"، "حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء"، "حظر ومكافحة كل أشكال التمييز، بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو الجهوي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي"، "تمتيع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية"... إنها مقتضيات، من ضمن أخرى كثيرة، حبلت بها الوثيقة الدستورية، وصيغت بجرأة وذكاء خلاق يراعي، من جهة، مطالب وانتظارات جل الحساسيات والتعبيرات الوطنية، ويحافظ، من جهة ثانية، على الثوابت والمرتكزات، التي شكلت، على مر القرون، إسمنت اللحمة الوطنية وصمام أمانها. ولعل المواقف والأصداء الجيدة، التي خلفها، بشكل أساسي، هذا الشق من مشروع الدستور لدى الأوساط الحقوقية الوطنية والدولية، تعد خير معبر عن صواب المقاربة التشاركية، التي اعتمدت في إعداد مشروع الدستور الموسوم ب "دستور حقوق الإنسان"، بما يتيح الاستمرار في مسار بناء دولة القانون والمؤسسات، وترسيخ الموقع الريادي للمملكة في العالمين العربي والإسلامي، على حد سواء. الباب الثاني من الدستور: الموقع المتميز للحريات والحقوق الأساسية باشتماله على 21 فصلا، أفردت بالكامل للحقوق والحريات، بدءا بضمان حق الفرد في سلامة شخصه وأقربائه وحماية ممتلكاته، ومرورا بضمان سلامة السكان وسلامة التراب الوطني، ووصولا إلى ضمان شروط المحاكمة العادلة، وتجريم التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، وكفالة حرية الفكر والرأي والتعبير، فإن الباب الثاني من الدستور، الخاص بالحريات والحقوق الأساسية، يقدم مثالا جليا للتجاوب مع المطالب، التي عبرت عنها مكونات الحركة الحقوقية الوطنية. كما يختزل هذا الباب روح وفلسفة عمل اللجنة الاستشارية، التي أوكلت إليها مهمة إنجاز المراجعة الدستورية، والمندرج في إطار الوفاء لاختيار المملكة الراسخ في بناء "دولة ديمقراطية، يسودها الحق والقانون، ومواصلة إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها، المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة". في هذا السياق، أكدت رئيسة المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، أمينة بوعياش، أن حقوق الإنسان تجد صداها في كل مقتضيات وتوصيات الدستور الجديد، مشددة على أن "دسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كانت نتاج مسار نضالي طويل، تعد معطى إيجابيا". وثمنت بوعياش، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، "التنصيص في مشروع الدستور على كونية حقوق الإنسان وعلى آليات حمايتها، وضمان عدم انتهاكها". من جهته، اعتبر الأستاذ الجامعي، طارق التلاتي، أن إبراز مجموعة من النقط المرتبطة بالحقوق والحريات العامة، بشكل واضح، في مشروع الدستور، يضع خطا فاصلا بينه وبين دستور1996، "إذ، بدسترة حقوق الإنسان، يدخل المغرب مربع الكبار، ويدشن مرحلة الانتقال الديمقراطي، بمنظورها الشمولي". وأكد التلاتي أن "الدستور الجديد، المندرج في سياق بناء الصرح الديمقراطي، يطرح على الدولة، وجوبا، ضرورة الإيفاء بالمواثيق الدولية، التي جرت المصادقة عليها"، مستحضرا الالتزامات المؤطرة لعلاقة المغرب مع الاتحاد الأوروبي، في ظل "الوضع المتقدم" الذي تتمتع به المملكة. الدستور الجديد... رهان التطبيق "إن أي دستور، مهما بلغ من الكمال، ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لقيام مؤسسات ديمقراطية، تتطلب إصلاحات وتأهيلا سياسيا، ينهض بهما كل الفاعلين لتحقيق طموحنا الجماعي، ألا وهو النهوض بالتنمية، وتوفير أسباب العيش الكريم للمواطنين". يختزل هذا المقتطف من الخطاب الملكي ل 17 يونيو الجاري، كنه الرهان المرتبط بتفعيل المقتضيات الحقوقية المتضمنة في الوثيقة الدستورية، وتحويلها إلى إجراءات وتدابير ملموسة، تتيح للمواطن تلمس آثارها في مختلف مفاصل الحياة اليومية، وفي دواليب المؤسسات والمرافق المختلفة، حيث لا احتكام إلا لسلطة القانون، الضامن للحقوق والحريات، والمؤطر لمختلف الممارسات والمسلكيات، أنى كان مصدرها. والأكيد أن هذا الرهان يتطلب انخراطا واسعا وصادقا من لدن مكونات الأمة، انخراطا يرقى إلى التطلعات، التي عبر عنها مشروع الدستور، بغية استثمار الوقت، الذي أهدر منه الكثير، وبعث الثقة، وخلق شروط التعبئة والحماس لدى المواطن. وفي هذا السياق، يرى اطارق التلاتي أن "أول محطة، بعد التصويت على مشروع الدستور، تتمثل في الرهان الانتخابي، الذي يتعين أن يفرز واقعا جديدا، يجعل المغرب يدخل، بشكل حاسم، عهد الديمقراطية، بمعناها الحداثي". (و م ع)