يحتدم النقاش هذه الأيام بين صفوف تلاميذ السنة الثالثة ثانوي إعدادي، على وجه الخصوص، حول الوجهة التي سيختارونها في توجيههم بعد نجاحهم في امتحان الالتحاق بالجذوع المشتركة بالسلك الثانوي التأهيلي الموسم المقبل وينشغل تفكيرهم مع التوجيه كأهم قرار مصيري يرهن مستقبلهم المهني. وأكد لنا العديد من آباء وأولياء التلاميذ أن أبناءهم يعيشون في هذه المرحلة حالة نفسية متدهورة جدا، ويزداد حنقهم في غياب موجهين يمتلكون الأدوات العلمية لمساعدتهم على اكتشاف ذواتهم وإمكانياتهم ووضع تقييم حقيقي لميولاتهم، بغض النظر عن النقط المحصلة في المواد الأدبية أو العلمية. وأبرزوا في حديثهم مع "المغربية" أن مراكز الاستشارة والتوجيه "لا تساير النضج والميول والاختيارات لدى التلميذ، الشيء الذي جعل هذه السيرورة متخلفة عن دينامية التطور الشخصي للفرد في خضم التحولات السوسيو- اقتصادية". وبهذا الخصوص يقول محمد كحلاوي، أستاذ باحث أن تباطؤ الجهات الوصية في التعامل مع هذا المعطى في ضبط إطار وآليات الاستشارة والتوجيه من شأنه أن "يؤجل أي إصلاح مرتقب في المنظومة التربوية الوطنية المرتبطة بشكل وثيق بالحاجيات التي يتطلبها اقتصادنا الوطني وبسوق الشغل"، مؤكدا أن مسألة التوجيه "لا تهم وزارة التربية الوطنية بعينها، بقدر ما هي شأن جميع المتدخلين الحكوميين الذين على عاتقهم تدبير الشأن العام"، فالتوجيه، يقول كحلاوي، يجب أن يكون "مبنيا على عمل مخطط ومدروس وفق استراتيجية حكومية، تعتمد على التنسيق بين جل القطاعات، لمعرفة ما هو موجود، وما هو مطلوب". الشيء نفسه أكده العديد من المهتمين بالشأن التربوي ممن استقت "المغربية" آراءهم وأضافوا أن "النمطية والارتجال في التوجيه هو الذي ساهم في ما وصلنا إليه من جحافل العاطلين حاملي الشهادات، بسبب عدم ضبط الحاجيات من التخصصات المهنية، الشيء الذي جعل أغلب التلاميذ يتوجهون إلى شعب لا تستجيب لحاجيات الاقتصاد الوطني". هذا الوضع، حسب المتحدثين أنفسهم "يؤثر أيضا بشكل سلبي على طموح ورغبات التلاميذ في بداية مسارهم الدراسي، باعتبار أن ما يتلقونه من دروس لا علاقة لها بطموحاتهم، إذ يرتكز تحصيلهم على الحفظ والشحن، دون أن تسع هذه المناهج لتساعدهم على التنبؤ بمستقبل تخصصاتهم والتعرف على طبيعة حاجيات سوق الشغل". وأمام هذه الاستفهامات، يعيش الإعلام والتوجيه في المغرب وضعية موسومة بالكثير من مظاهر التأزم، ويرجع مفتش إقليمي في التوجيه هذه الأزمة إلى "انعدام وسائل علمية حديثة في ميدان التوجيه وطبيعة إكراهات الخريطة المدرسية المتسمة بالتعقد وعدم وجود تكوين مستمر للمستشار في التوجيه، فيما يمكن أن يواكب به التطورات والتغيرات، التي تطرأ على جل مناحي الاقتصاد". وأبرز محدثنا أنه من أجل أن يكون التوجيه التربوي في مستوى الأهداف المطروحة، "لابد من توفر شروط أهمها إحداث وكالة وطنية تتكلف بالتنسيق بين مختلف الفاعلين في التوجيه وربط علاقات الموجه بالمؤسسات الجامعية والنسيج الصناعي والاقتصادي". من جانبه، أبرز أحد مستشاري التوجيه أن المشكل يكمن، أيضا، في كون نظامنا التعليمي، "نخبويا يعتمد على آليات تقنية كلاسيكية، بعيدا عن أي مقاربة موضوعية تعتمد على العنصر البشري كأداة ووسيلة لتحقيق التنمية". وتبقى أهم معيقات التوجيه، حسب العديد من مستشاري التوجيه، ممن استقت "المغربية" آراءهم في "انعدام وسائل القياس البسيكو- تقنية وخزانات الروائز وأدوات "تيستو تيك" موصولة بالشبكات المعلوماتية لتمكين المستشار في التوجيه من مراقبة ومرافقة التلميذ، طيلة مساره الدراسي، لاكتشاف مكامن القوة فيه، واستثمارها بالشكل المواتي وتدبير اختلالاته ونقط تواضعه، من أجل تقوية عظمه وقدراته في مواجهة التحديات التي يطرحها عالم اليوم " . وما من شك أن العنصر البشري بمثابة الثروة التي لا تنفذ، إذا ما جرى استغلالها كلا حسب ميولاته وكفاءاته، وأي استثمار في هذه الثروة عبر تفعيل آليات التوجيه والمراقبة والدعم هو استثمار، من أجل التنمية وإكساب المناعة اللازمة للمواطن، كي يكون فاعلا ومنتجا ويحمل قيمة مضافة في أدائه، وهذا ما ينقصنا بالفعل في العديد من الميادين، وتعد الإدارة المغربية نموذجا صارخا لهذا النقص، ونود لو تضع الحكومة في إطار مقاربتها للإصلاح الإداري أن تجعل من التوجيه التربوي والمهني نقطة انطلاق لولادة جديدة لإدارة مواطنة تساهم بشكل كبير في ترسيخ قيم الوطنية الصادقة.