إن الحديث عن الذاكرة يدخل في صلب الممارسة الإبداعية عموما، والكتابة التي ترتسي شعريتها على المحكي خاصة ولا أحد يجادل في كون الذاكرة، بهذا المعنى، هي منطلق كل عمل أدبي، ومعينه الأساس في بنينة اقتصاده الدلالي، والشكلي، وتشييد عوالمه المتخيلة، وكذا سنده في تفعيل مختلف المواصفات الشعرية المجردة، التي ستمنحه "أدبيته" طي جنس من الأجناس. ورغم أهمية الذاكرة وفاعليتها، فإن الاهتمام بها في الفكر الغربي سيأتي متأخرا، ولم يصبح موضوعا للتفكير والدراسة، وهاجسا داخل الأوساط الأكاديمية والاجتماعية والسياسية، إلا مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وبروز ما ينعت في الأدبيات النقدية والتاريخية ب"التضخم الذاكراتي". فهل تمثل الذاكرة مصدرا مطلقا ومقدسا، يحتوي على حقائق لا تقبل الشك؟، وكيف يمكن الحد من سطوتها وشططها عندما يجري نقل مخزونها إلى تجربة الحكي والتأريخ الذاتي والكتابة ؟، وما هي حدود الواقعي والخيالي في فعل التذكر المنجز طي جنس تعبيري معين؟، ثم هل تستطيع الذاكرة أن تحتفظ بمصداقيتها المفترضة وهي تخضع للتسنين الجمالي؟ على ضوء هذه الأسئلة، يقترح الباحث الأكاديمي هشام العلوي، في كتابه الأخير "ذاكرات على مهاوي الكتابة: مقاربات نقدية"، الصادر ضمن المكتبة الأدبية عن "شركة النشر والتوزيع المدارس"، مداخل نظرية، ومقاربات تحليلية، لإضاءة القضايا الإشكالية المرتبطة بتيمة الذاكرة، والمساهمة في فهم أبعادها الشائكة وتجلياتها المتعالقة، دون إغفال أن راهنية سؤال الذاكرة، عموما، يمليه النقاش، الذي يمور في المشهد الثقافي والسياسي الوطني حول ظلال الأمس وعتمات الماضي، وضرورة استحضار "واجب الذاكرة" في كتابة التاريخ المعاصر للمغرب. ويتوزع هذا الكتاب، الذي يضم مدخلا مهما يتناول سياقات الحديث عن تيمة "الذاكرة" واستشكالاتها، على ثلاثة فصول: الأول بعنوان "تنويعات سير ذاتية"، يتحدث فيها الكاتب عن "السيرة الذاتية بالمغرب: ثلاث زوايا للنظر في تجربتها جرأة البوح النسائي: عتبات "الحشمة"، و" "الرحيل": سطوة الهامش في السيرة الذاتية"، و""فراشات هاربة": "سريرة بيضاء" للشاعر عبد الكريم الطبال"، وفي الفصل الثاني يتناول أسئلة التأريخ والمحو والجسد، من خلال "نصوص تازممارت": ظلال الماضي وأشراك التذكر"، و"الهوية شاعر": مشروع الكتابة حول الذاكرة لدى عبد اللطيف اللعبي"، و"من "التعريف" إلى "العلامة": الإغواء الأخير لابن خلدون"، و"قصيدة علال الحجام: جسد بسعة العالم"، و"الإنصات إلى الجسد: "علمني كيف أرقص"". أما في الفصل الثالث المعنون ب"في استعادة الوجدان والحنين"، فيتحدث الكاتب عن تجربة المبدع الميلودي شغموم، والناقد حميد لحمداني. ومن بين الأشياء، التي أثارها الباحث هشام العلوي في كتابه، الذي سيجري توقيعه في المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدارالبيضاء في دورته السابعة عشرة، حصره لملامح وخصائص الذاكرة في: 1- إن الذاكرة ليست متطابقة مع الواقع ومعادلة للماضي أو الحياة ككل، بقدر ما هي وعي بهذه المرجعيات، وإدراك منظم لتشابكاتها وتعقداتها، وخبرة حول معطياتها وقوانينها، تحتكم إلى كفايات الحواس في نسبيتها وجزئيتها. وبالتالي، فإنها تمثل معبرا لازما وضروريا بين الواقعي والتخييلي، إن لم نقل إنها المرجع الوحيد التي تحيل عليه الكتابة، والمتبقي من ذلك الكيان المنفلت والمتدفق والمتلاشي، الذي نسميه: "الواقع". وتبعا لذلك، فإن مجموعة من المؤلفين يستحضرون هذه الحقيقة عندما يصرحون في أعمالهم أو في نصوص موازية لها، بأنهم يحكون عن ذواتهم وعن الآخرين في مرحلة الطفولة والشباب، بما انطبع عنها في ذاكرتهم وليس كما كانت أصلا في الواقع. 2- إن الذاكرة لا تكتفي فقط بحفظ الأفعال والأحداث والأمكنة والأصوات والأشياء كما هي في سيرورتها الموضوعية، أو كما حصلت في تاريخها الطبيعي، وإنما تضفي عليها كذلك، عند تخزينها، قيما إيجابية إضافية قد تكون وجدانية أو ثقافية أو ذهنية، أو نابعة من المتخيل في بعديه الشعوري واللاشعوري، الذي يسود المجتمع سلوكا وتصورا. ولعل هذه الأنساق التوسطية، التي تتدخل في عملية بناء الذكريات، تجعل من الحافظة بوتقة حيث تنصهر جملة من التقاطبات: الموضوع والذات، الفعل والإحساس، الواقعة والاستيهام، المعنى والتأويل... وهكذا، فإن الذاكرة لا تسعف الكاتب بمادة خام بقدر ما تهيئ له نموذجا مبنينا يتلبس طيه الوجود المادي الأمبريقي بالوجود العاطفي والرمزي، مما يفيد بأن عملية التنصيص ستشمل عالمين متعالقين ومختلطين، عالم مرجعي صرف سيخضع للمعالجة ثم التجاوز، وعالم خيالي سيجري تحققه عبر الأوعية الشكلية والمصافي الأجناسية المختارة لحظة الكتابة. ومن ثمة، يتلون فعل التذكر بالأهواء والتحيزات والافتراضات والأوهام التي تطفو على السطح وكأنها بديهات وقعت فعلا، فتنمحي التخوم بين الماضي وما انتسجه الخيال لتسريح القابع والمسكوت عنه والمحلوم به. 3- إن الذاكرة، إذن، ذاكرات متساوقة ومتقاطعة يمكن إرجاعها إلى أصناف وأنماط كالتالي: ذاكرة الجسد والحواس (المسموع والمرئي والملموس)، وذاكرة الرغبة وما يتمخض عنها من أحلام وأحلام يقظة تخترق رتابة اليومي وخطية الزمن، وذاكرة الإخفاقات والكوابيس والمخاوف والوساوس والهواجس، وذاكرة العادات السرية والجزئيات المنسية واللحظات الميتة، وذاكرة اللغة والمقروء والمكتوب ومختلف أنواع الخطاب، وذاكرة الطقوس وآداب السلوك والمعتقدات والرموز، وذاكرة الوقائع والظواهر التي تنتمي إلى التاريخ أو الأسطورة أو الموروث الشعبي، وذاكرة اللغات الهامشية، التي تغطي مساحات خارج دائرة المسموح به والمعتبر.