شكلت ساحة جامع الفناء، الواقعة في وسط مراكش، على مر العصور، مادة ملهمة للشعراء والأدباء والمؤرخين والمبدعين، من خلال بعدها الثقافي وفضائها العجائبي، الذي يختلط فيه الخيال بالواقع ساحة جامع الفنا (أرشيف) إلا أنها أصبحت، في السنوات الأخيرة، تعج بعدد لايستهان به من العشابة، الذين حولوا الجهة الشرقية من هذه الساحة العالمية، التي جرى تصنيفها كتراث شفوي للإنسانية من طرف منظمة اليونسكو، إلى عيادات متعددة الاختصاص، منهم من يفترش الأرض ويستعمل جلود ومحنطات، ومنهم من يعرض أدوية في قنينات مختلفة الأحجام، حتى يخيل لك بأنك في مصحات للعلاج في الهواء الطلق. فضل عدد من الرواة الحكواتيين، الذين كانوا يبدعون في نسج قصص وحكايات من خيال مدهش لشد انتباه المتفرجين، إلى مغادرة ساحة جامع الفناء أمام احتلالها من طرف بعض ممتهني الحرف الهامشية، ليتركوا المجال للعديد من العشابة، الذين حولوا الجهة الشرقية المقابلة لمقر غرفة الصناعة التقليدية إلى سوق خاص لعلاج كل الأوبئة والأمراض، كما تحولت حلقاتهم إلى عيادات متعددة الإختصاص لا تظهر منها سوى قنينات من الزجاج وأواني تحتوي على أعشاب مختلفة الأشكال والأحجام، تعالج كل الأمراض، حسب مايدعون. ويعمد بعض العشابة إلى استغلال مساحة أكبر، لوضع قنينات مختلفة الأحجام وأواني وأكياس وبعض الصور ومجسمات لجسد الإنسان ،لإثارة انتباه الزائرين وإعفائهم من الكلام في محاولة لاجتذاب المارة، في حين يلجأ العشابة المتحدرون من الأقاليم الصحراوية إلى إثارة انتباه المارة بعرض بعض جلود الأفاعي الضخمة، وبعض الطيور، وبيض النعام من الحجم الكبير. يقول (م. ب)، أحد العشابة من منطقة سوس، إنه ورث المهنة عن أجداده، ومارسها منذ حوالي 40 سنة في مدينة سلا، مضيفا، بينما كانت يده منشغلة بتعديل مجموعة من الكتب فوق طاولته الصغيرة، "اشتغلت بساحة جامع الفناء منذ 35 سنة رفقة العشابة الأخوين الصحراويين سي عباس العيدي والحاج بوجمعة كحل العيون، كنا ثلاثة فقط، أما اليوم، فقد انتشرت هذه المهنة وأصبح الكل يشتغل بها". وقال الحاج أحمد، أقدم عشاب بسوق الرحبة القديمة في لقائه ب"المغربية"، بأن حرفة العشابة مهنة منظمة كجميع الحرف، إلا أن دراية العشاب تكون نتيجة تراكم زمني لعدة أخطاء وكوارث تسببت في عاهات ووفيات، لكنها جعلت العشابة يكتسبون خبرة معينة، أما اليوم، فساحة جامع الفناء تضم عدد كبير من العشابة، منهم من يمر عابرا ويبيع "سموما" ليرحل في الغد. أتناء تجولك بالجهة الشرقية لساحة جامع الفناء، التي تحولت إلى فضاء للتداوي بالأعشاب، يثير انتباهك عشاب يحمل سبحة، ويضع شارة على صدره، وبعض الشواهد فوق طاولة صغيرة، تحتوي على بعض الأكياس، كتب عليها نوع المرض كالروماتيزم، السكري، وفقر الدم، والقصور الكلوي، وغيرها، ثقته بنفسه واعتقاده بأنه يقدم خيرا للناس جعله يمتنع عن الكلام والصياح لاستقطاب المارة، واكتفى فقط بإحاطة المكان، الذي يستغله ببعض الكراسي من الحجم الصغير للزبناء، الذين يتوافدون عليه لاحتساء محلول ذي لون أحمر، يحتوي على أزيد من 15 عشبة، كما يدعي، بمبلغ ثلاثة دراهم للكأس الواحد، في الوقت الذي يقوم بتوزيع حلويات يطلق عليها اسم "قوت القلوب" على الأطفال، الذين يترددون عليه مقابل حصوله على دعواتهم، بترديد عبارة "الله يرحم الوالدين". على طاولة صغيرة، يضع أحد العشابة السوسيون قنينات صغيرة، بها أعشاب مختلفة كالشيح والعكاية، وتكوت، والزعتر، والريحان الأحمر والعادي، والخزامة، والحلحال، والعرعار، وغيرها، وميزان نحاسي صغير الحجم يستعمل في عملية الوزن، لأن "الدوا بالميزان"، كما يؤكد العشاب السوسي، الذي يستعين بمجموعة من كتب الطب العتيقة، باعتبارها المرشد الأساسي في عمله، يعود إليها كلما استعصت عليه أمور التداوي لأخذ المقاييس وطريقة العلاج. بالقرب من العشاب السوسي، كان أحد العشابة، المتحدرين من الأقاليم الصحراوية، يشرح لزواره مزايا خلط "راس الحانوت بالمساخن"، لتتفاعل داخل الجسم وتقضي على المرض، مؤكدا لهم بأن "عنبر كاكا"، الذي غالبا ما يؤخذ مع الشاي، هو الكفيل بإخراج البرد من الجسم والمحافظة على فحولة الرجال ويضفي الجمالية على المرأة. وما إن اقترب بعض المارة من عشاب آخر، كان يتحدث بشكل عاد، حتى غير لغته وأصبح يتكلم بالحسانية، ويذكر مزايا المناطق الحارة، مقارنة مع باقي مدن المملكة، التي تنتشر فيها الأمراض والعلل، على حد قوله ، واستمر في تهويل الحاضرين قبل أن يفاجئهم بخليط من الأعشاب في قطعة بلاستيكية صغيرة تعيد الفحولة للشيخ الهرم على حد تعبيره. ولا تقتصر حرفة العشابة على الرجال فقط، بل هناك نساء يمتهنها داخل ساحة جامع الفناء، وتعمد إحدى العشابات، وتدعى الحاجة، إلى ترديد عبارات وشرح مزايا الوصفة الخاصة التي تعرضها للبيع على الملتهفين للمحافظة على "فحولة الرجال"، مما جعل حلقتها يحتشد حولها جمع غفير من الزوار، لتواصل حديثها بتقديم مجموعة من النصائح والإرشادات حول البروستات و"البرودة" والإنتصاب وطريقة الممارسة الجنسية، قبل أن تخاطب جمهورها بأنها تقدم أعشابا صالحة للرجال لإستعادة "الفحولة الضائعة"، بفعل نزوات الشباب، حسب تعبيرها. وتبقى الأمراض الجنسية أهم مايبحت عنها زوار ساحة جامع الفناء، الذين يجدون ضالتهم عند العشابة، خصوصا المتحدرين من الأقاليم الجنوبية، إذ تعرف الجهة الشرقية من الساحة العالمية خلال الفترات المسائية، إقبالا كبيرا للمتلهفين على العشابة لاقتناء الأعشاب ابتغاء ل"الحرارة الجنسية"، على حد قوله.