فقدت الساحة العربية والمغربية في بحر هذه السنة، أحد أبرز المفكرين العرب، المشتغلين على مشاريع فكرية عربية مهمة، وأحد المثيرين للجدل بالقضايا التي تناولها والمفاهيم التي وظفها، وهو المفكر محمد عابد الجابري، الذي ترك خزانة مهمة، وإرثا فكريا قل نظيره في العالم العربي.ولأن كل ما كتبه المفكر الراحل محمد عابد الجابري يستحق أكثر من وقفة وأكثر من قراءة، تقترح "المغربية" على قرائها، خلال شهر رمضان الأبرك، نشر مجموعة من المقالات، التي تناول فيها الجابري مجموعة من المفاهيم الإسلامية، وقضايا الهوية والتراث، لعلها تفيد القراء في التقرب أكثر من المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري، الذي أعاد قراءة ابن خلدون والتراث العربي، وقدم نقدا للعقل العربي، توخى من ورائه مشروعا نهضويا متميزا، وانتهى به المطاف إلى تقديم تفسير جديد للقرآن الكريم. تناولنا بالتحليل والتعليق مفهوم "الفتنة" في مقال سابق بوصفه أحد المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وميزنا فيه –اعتمادا على معجم لسان العرب- بين معنيين أحدهما يخص الفرد من الناس، والثاني يخص الجماعة، وقلنا عندما يربط هذا اللفظ بالفرد من الناس يكون معناه: الاختبار، والمِحْنة، "يقال: فلان مَفْتُونٌ بطلب الدنيا: قد غَلا في طلبها... وافْتَتَنَ في الشيء: فُتِنَ فيه. وفَتَنَ إِلى النساءِ فُتُوناً وفُتِنَ إِليهن: أَراد الفُجُور بهنَّ. والفِتْنة: الضلال والإِثم. أما عندما توصف به الجماعة أو العلاقة بين أعضائها، فمعناه: "اختلافُ الناس بالآراء، وما يقع بين الناس من القتال". واليوم نريد أن نتناول مفهوم "الفتنة" في مجال خاص، مجال الفقه، فنفحص مدى مصداقية تبرير الفقهاء فرض الحجاب على المرأة "خشية الفتنة" كما يقولون. نحن لن نتعرض للحجاب ذاته، إذ سبق لنا أن نشرنا في هذا المكان سلسلة مقالات عرضنا فيها آيات الحجاب وآراء المفسرين والفقهاء في الموضوع وانتهينا إلى أن الأمر يرجع في النهاية إلى "الحشمة" المطلوب شرعا من كل من المرأة والرجل الالتزام بها وفقا لقوله تعالى: "قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ" (سورة النور 30-31(. ومع أن "غض البصر" مطلوب من الرجل والمرأة بالدرجة نفسها على صعيد العبارة، مع البدء ب"المؤمنين" قبل"المؤمنات" (الرجال قبل النساء)، فإن جل ما كتبه الفقهاء والمفسرون –إن لم نقل كله- يجعل سبب هذا الطلب أو مبرره هو أن "المرأة" مصدر الفتنة للرجل، ساكتين عن إمكانية العكس، وهو أن الرجل قد يكون هو الآخر "فتنة للمرأة". فمن الفقهاء من يرجع في "تأصيل" الفتنة في المرأة دون الرجل إلى قصة آدم وحواء، منساقين مع ما في الإسرائيليات من أن المرأة هي التي أغوت آدم وجرته إلى الأكل من الشجرة، التي نهاهما الله من الاقتراب منها. ففي القرطبي: "يقال إن أوّل مَن أكل من الشجرة حوّاء بإغواء إبليس إياها... وأوّل كلامه كان معها لأنها وسواس المخدّة، وهي أوّلِ فتنة دخلت على الرجال من النساء". هذا الكلام لا يستقيم إلا إذا أخذنا بما ورد في التوراة وفي الإسرائيليات عموما، من أن "الله خلق حواء من ضلع آدم"، وهذا مذكور في التوراة، ولا أثر له البتة في القرآن: ففي الذكر الحكيم "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ (ماء رحم المرأة) وَمُسْتَوْدَعٌ (مني الرجل مستودع فيها) (الأنعام 98)، وأيضا"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً" (النساء 1)، فالأمر يتعلق هنا ب "النفس" وليس بالبدن، ولا باللحم ولا بالضلع. والمعنى واضح وهو أن الله يخلق النفس في رحم المرأة من اجتماع مني الرجل و"ماء المرأة" (ما ينزل من مبيضها). أما الخلق أول مرة فواضح من الذكر الحكيم أن الله خلق آدم من طين بث فيه نفس آدم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فليست حواء هي التي دفعت آدم وأغوته بالأكل من الشجرة، فليس في القرآن ما يدل على هذا، وفي التوراة جعلت "الأفعى" هي التي غررت بآدم، وقد يفهم من هذا أنه كناية عن المرأة. أما في القرآن فالنص صريح في أن الشيطان هو الذي أزل كلا من آدم وحواء. قال تعالى "وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (البقرة 35-36)، ومعنى الشيطان هنا كما في مواضع كثيرة هو "ما يوسوس في النفس"، هو"الهوى"، هو التصرف بدافع الشهوة والاشتهاء. ليس في القرآن إذن ما ينص على أن المرأة "فتنة" ولا أنها تفتن الرجل، بل الرجل هو الذي يُفتتن بها، وإذا كانت تجذب الرجل ليفتتن بها فالمسؤولية أولا على الرجل، لأن المطلوب منه "غض البصر"، أما القول بضرورة فرض نوع من الحجاب على المرأة حتى لا يفتتن بها فهذا يخالف نص القرآن ("ولا تزر وازرة وزر أخرى"). فلماذا نحمل المرأة وزر الرجل لكونه لا يستجيب للآية التي تدعوه إلى غض البصر؟ أما إذا فرضنا أن امرأة استثارت عمدا أحد الرجال، وأنه استجاب لإغرائها فالذنب ذنبه تماما، كما إذا استثارت قنينة خمر شهوة الرجل فشرب منها فالذنب ليس ذنب القنينة... كثير من المفسرين -حتى الكبار منهم- ينساقون أحيانا مع "الأفكار المتلقات" من دون إعمال العقل، ودون طرح المسألة على ما يفيده استقراء الذكر الحكيم. من ذلك مثلا ما أورده القرطبي بصدد قوله تعالى: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (آل عمران 14)، قال: "قوله تعالى "من النساء": بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن، لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" أخرجه البخاري ومسلم. ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء. ويضيف القرطبي: يقال: في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة. فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم، لأن المرأة قد تأمر زوجها بقطع الرحم مع الأمهات والأخوات. والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام. وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم". ونحن نرى أن قوله قبل الحديث "لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال"، قول لا يناسب مضمون الحديث حتى يقدم كتمهيد لتفسيره.