مرت 4 أشهر على فتح أبواب مصلحة طب الإدمان في وجه الأشخاص المدمنين في مدينة الدارالبيضاء، للاستفادة من علاج طبي من أمراض تعاطيهم لمؤثرات عقلية، بغض النظر عن جنسهم أو نوع المواد المتعاطى لها أو الكميات المستهلكة منها.شرعت مصلحة طب الإدمان بالدارالبيضاء، منذ الأسبوع الماضي، في استقبال حالات المدمنين، التي تتطلب خضوعهم لعلاجات داخلية، كان يتعذر توفيرها على المصلحة استشفاء المرضى لضعف الموارد البشرية داخلها. وساهمت مصلحة طب الإدمان في إزاحة ستار الحرج من إعلان الذات المدمنة، فتوالى إقبال البيضاويين وعائلاتهم عليها، في محاولة منهم للتغلب على حالات إدمانهم. وتحولت أرجاء المؤسسة الطبية إلى نقطة تلاقي مرضى الإدمان، همهم الوحيد، تخليصهم من تبعاتها السلبية، دون اعتبار الموضوع طابوها، لا يجب الحديث عنه أو الالتفات إلى المصابين به. ولقيت أقسام مصلحة طب الإدمان، إقبالا ملحوظا، إذ يقارب عدد الوافدين عليها، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، 500 زيارة، دون تعداد ملفات الحالات، التي يجري تتبعها بشكل دوري، بينما يتراوح عدد الزيارات اليومية، ما بين 20 إلى 30 حالة. علاجات نفسية على مقربة من الباب الرئيسي لكلية الطب في الدار البيضاء، وبمحاذاة مركز علاج الأمراض النفسية والعقلية، التابع للمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، تقع مصلحة طب الإدمان في العاصمة الاقتصادية، التي افتتحت أبوابها في الثاني من شهر شتنبر الماضي، وتديرها البروفيسورة سمية برادة، أستاذة في كلية طب الدارالبيضاء وأخصائية في علاج أمراض الإدمان. بنايتها واضحة للعيان، تظهر على بوابتها الرئيسية لوحة من الحجم الكبير، تحمل عنوانها المكتوب بحروف بارزة، وإلى جانبها رمز مؤسسة محمد الخامس للتضامن، التي منحت مساهمات مهمة لبنائها. حداثة بناء وتجهيز هذه المؤسسة الصحية، تمنحها رونقا وجمالا، يرفع من حماسة المتوجهين إليها لولوجها دون تردد، حيث يجد مرضى الإدمان أجواء مساعدة على تلقي العلاج الجديد، بخلاف ما تمنحه بعض الأقسام الطبية من تردد أو تقزز. شيدت البناية على مساحة تبلغ ألفا و200 متر مربع، تضم طابقا سفليا يشمل قاعة متعددة الاستعمالات، وثلاث قاعات للفحص والكشف، وثلاث قاعات للعلاج النفسي، وقاعة للتمريض وإدارة، وقاعة للمساعدة الاجتماعية، وبهو للاستقبال. أما الطابق الأول فيتوفر على سبع غرف للاستشفاء، تضم في مجموعها 10 أسرة، وقاعة للأكل وقاعة للتمارين البدنية، تضم بدورها أجهزة رياضية حديثة، تسخر للأشخاص المدمنين، من الذين تتطلب حالتهم الصحية استشفاءهم داخل مصالحها، لمساعدتهم على استثمار وقت فراغهم بشكل إيجابي، ولمنحهم فرصا للإحساس بمشاعر جميلة. أما الطابق الثاني، فيحتوي على قاعة للألعاب والعلاج المهني، وأخرى خاصة بالاجتماعات، إلى جانب مكتبة مع أجهزة الكمبيوتر والاتصال بشبكة الإنترنت المتاحة، وثلاث مكاتب للأطباء ومقصف. ومن ضمن ما توفره المصلحة، وحدة للاستشارات الطبية، تضم 8 مكاتب وأربع غرف للتشاور، لإجراء مقابلات للأمراض النفسية، وقاعتين للعلاج النفسي وغرفة للعلاج النفسي. وتبلغ طاقتها الاستشفائية 3 آلاف و285 ليلة في السنة، و8 آلاف كشف طبي في السنة، تروم التحسيس بمخاطر تعاطي المخدرات والوقاية منها، وتطوير البحث العلمي في مجال محاربة الإدمان. ومن الناحية المالية، تطلب بناء مصلحة علاج الإدمان، غلافا ماليا بلغ 5.5 ملايين درهم، تكلفت بأدائه مؤسسة محمد الخامس للتضامن، فيما تولى المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، تزويدها بالموارد البشرية، بينما تتكفل جمعية "النسيم" التي تعنى بنشر التوعية بمخاطر الإدمان، بضمان تأمين عمليات مواكبة المرضى والأنشطة التحسيسية. إلا أنه من معيقات تقديم الخدمات العلاجية والاستشفائية داخل هذه المصلحة، ضعف الموارد البشرية المخصصة لها، سيما على مستوى عدد الممرضين، إذ يظل عددهم ضعيفا، مقارنة بارتفاع نسبة الوافدين والراغبين في العلاج، رغم الأهمية البالغة لدورهم و لتعاملهم المباشر مع المرضى، وخضوعهم لفترة مراقبة صحية من قبلهم. ففي هذه المصلحة لا يخصص سوى ممرض واحد خلال فترة الليل، علما أن هذه الفترة تتطلب مجهودا كبيرا للعناية بمرضى الإدمان وتتبع حالتهم الصحية، النفسية والعضوية. الشفاء ممكن يتضح من خلال الزيارة الميدانية لمصلحة طب الإدمان، أن هذه المؤسسة الصحية تستقبل جميع الأشخاص، الذين يعانون حالة إدمان، سواء منها المشروعة، مثل حالات الإدمان على الألعاب الإلكترونية، أو غير المشروعة، مثل تعاطي شرب المواد الكحولية أوالمخدرات بمختلف أنواعها، أو مجتمعة. ويعتمد الأطباء داخلها على نهج أساليب متعددة لعلاج المصابين، أبرزها علاجات ترتكز على توظيف خصائص العلاج النفسي والسيكولوجي إلى جانب العلاج باستخدام الأدوية الطبية البديلة والتعويضية عن المواد المؤثرة على عقل المدمن التي تجعله تابعا لها. وبناء على ذلك، تجري الاستعانة بطرق مقاومة السموم التي يستقبلها مخ المدمن، وعلى جلسات العلاج المهني، وممارسة الرياضة، وعلى حلقات عمل الكمبيوتر. وتتيح طريقة التدبير المالي للمصلحة، حسب المسؤولين فيها، فرصا متعددة للراغبين في الإقلاع عن الإدمان، إذ تحدد ثمن العلاج من الإدمان في 100 درهم عن كل حصتين، خلالها يخضع المدمن لحصص علاج نفسي وسيكولوجي وطبي. وتبعا لذلك، عند تأديته لثمن الحصة الأولى فإنه يعفى من الأداء عن الثانية، ولا يصبح ملزما بالوفاء إلا ابتداء من الحصة الثالثة. وقد يتساءل البعض عن نجاعة هذه العلاجات، وعن المدة التي تتطلبها العملية العلاجية، إلا أن الجواب كان سريعا من قبل سمية برادة، مديرة مصلحة طب الإدمان، التي تحدثت خلال اللقاء بها عن أن المدة الزمنية قصيرة، تتراوح ما بين أسبوعين إلى 4 أسابيع، إلا أن هذه المدة قابلة لكي تكون أقل أو أكثر، حسب معطيات متعددة، أبرزها مدى رغبة المدمن، فعلا، في التخلص من حالة إدمانه وتوفره على إرادة حقيقية، إلى جانب انخراطه الفعلي في العملية العلاجية والانضباط لنصائح الطبيب وتجنب العوامل المساعدة على حالات الإدمان. مقاربة جديدة تبددت مخاوف وترددات الجهات الرسمية في اعتماد طريقة جريئة للتعامل مع الأشخاص المدمنين، لمواجهة انتشار ظاهرة الإدمان على المخدرات في المغرب، فعزمت على فتح مصلحة طبية لاستقبال المدمنين والأخذ بيدهم لتجاوز حالتهم المرضية، عوض وصمهم وتهميشهم والاكتفاء بالنظر إليهم كأشخاص خارجين عن القانون. ففي وقت سابق على إنشاء هذه المصلحة، كان المدمنون على المواد المخدرة، يحالون على مستعجلات ومستشفى الأمراض النفسية والعقلية العمومية، لمنحهم علاجات مهدئة لحالات الهيجان، التي يكون عليها كثير منهم، فيتسببون في مشاكل متنوعة، بل يتحولون إلى مصدر إزعاج وخطر على أنفسهم وأسرهم وجميع أفراد محيطهم الاجتماعي. وساهمت هذه المعطيات في تشكيل، حاجة ملحة لاعتماد سياسة صحية خاصة بهذه الشريحة الجديدة من المرضى، سيما أن عددا منهم يعانون من الإصابة بأمراض الهلوسة والذهان، وأمراض عضوية أخرى، بعضها خطير ومعد، أدت إلى بروز مصطلح طب الإدمان كاختصاص قائم بذاته. لم يأت التفكير في إنشاء مصلحة طب الإدمان من فراغ، وإنما استند إلى معطيات واقعية كشفت عن تزايد تفشي ظاهرة تعاطي المخدرات والإدمان في المغرب، ما رفع عدد مستهلكيها إلى أرقام أثارت حفيظة الأطباء والمعالجين. وحركهم ذلك للتفكير في صيغة علاجية وطبية لمساعدة المدمنين، الذين يؤذون خلالها ذواتهم، في لحظات البحث عن نشوة وتسلية مؤقتة، ويتسببون في مآسي ومشاكل متعددة لمجتمعهم العام ومحيطهم الأسري، تبعا لما كشفت عنه إحدى الدراسات الميدانية. فحسب دراسات شملت نحو نصف مليون مستهلك مدمن على مادة الحشيش، اتضح معاناة 4.2 في المائة من المدمنين من التبعية أو الإفراط في استهلاك المخدرات بأنواعها، بينما بينت الدراسة أن أكبر مادة يدمن عليها المغاربة هي السجائر. بينما عرت نتائج استطلاع وطني آخر، شمل 6 آلاف شخص، عن انتشار الإدمان على الكحول في المغرب، بنسبة 2 في المائة، بينما تصل إلى 4.1 في المائة للتعاطي للمخدرات، في خلال 12 شهرا التي سبقت إنجاز الاستطلاع، و3 في المائة لتعاطي مادة مؤثرة على العقل، وبنسبة 2.8 في المائة من المدمنين يعتمدون على واحد أو أكثر من المواد المخدرة. أتاحت لنا فرصة الجلوس في قاعة الانتظار بمصلحة طب الإدمان، التقرب أكثر من نوعية الوافدين على المصلحة، والتعرف، نسبيا، على مستويات انشغالهم بقضية التخلص من الإدمان والتعاطي للمواد المخدرة. فخلال ساعتي زمن، عاينا حالات لمدمنين تتراوح أعمارهم ما بين 30 و45 سنة، وفئة أخرى من صنف المراهقين، تتراوح أعمارهم ما بين 16 و20 سنة، من الجنسين معا، إلا أن أكثرهم من الذكور. كان بعضهم يتقدم بشكل فردي لطلب الاستشارة الطبية، بينما كان آخرون مصحوبين بأحد أفراد أسرهم، وفي الغالب الأمهات. مقاومة الإدمان ومن بين الحالات التي تمكنا من تعقب خطاها داخل المصلحة، في بحثها عن الخلاص من الإدمان، حالة شاب مراهق، بدا في العشرينات من عمره، يرتدي لباسا شبابيا، عبارة عن سروال "دجينز"، ومعطف قصير. اصطحبه والده الملتحي والمرتدي لقميص تقليدي قصير، ووالدته المنقبة، اللذين بديا متحمسين لعلاج ابنهما من حالة إدمانه، بينما بدا الشاب قلقا، ويتهرب من الوقوف إلى جانبهما أو مشاركتهما الجلوس في قاعة الانتظار. وخلال تلك الأثناء، كان يدور حوار ثنائي بين الأم والممرضة المكلفة باستقبال مرضى الإدمان، حول مدى استجابة الابن للعلاج، إلا أن الأم كانت تتخوف من الاستمرار في الحديث، كلما لمحت عيناها ابنها الذي في الخارج. وعلمنا في ما بعد، أن من بعض أسباب حالات إدمان الشباب، وجود عوامل نفسية لها صلة بالعيش في وسط اجتماعي، يكون فيه المعني بالأمر، يشعر بأنه محاصر ومقيد من قبل أفراد يفرطون في اعتماد أسلوب الجدية معه، ولا يسمحون له بالتمتع بحرية مسؤولة. كان هذا ما استقيناه من قبل إحدى الطبيبات الأخصائيات في العلاج النفسي للمدمنين، خلال الحديث عن ظاهرة الإدمان في مثل هذه النوعية من الأوساط الاجتماعية في المغرب، لكن لم نتوصل إلى أجوبة خاصة، تتعلق بحالة معزولة، لما تمليه أخلاق المهنة من عدم إفشاء سر المريض، لكن تعرفنا على أن الشاب قد يبحث لنفسه عن سبيل لفرض أسلوبه في الحياة ولفت الانتباه إلى خصوصيته ورغباته بهذه الطريقة السلبية، سيما إذا توفرت عوامل أخرى. ومن الحالات الملفتة للانتباه، كانت حالة مريض بالإدمان، يتجاوز عمره 45 سنة، كانت تصطحبه والدته المسنة، وتحضن ملفه الطبي، وهي تجلس مشغولة البال وشاردة في تفكير عميق، إلا أنها سرعان ما وقفت حين نودي على ابنها من قبل طبيبته المعالجة، وأصرت على الحضور معه لحصة العلاج. حالة أخرى، وهذه المرة كانت لفتاة مراهقة مدمنة، في العشرين من عمرها، ترتدي لباسا عصريا، عبارة عن سروال "دجينز" من نوع "سليم"، ومعطف قصير إلى جانب أنها كانت تضع قبعة سوداء على رأسها، وزينت وجهها ببعض المساحيق خفيفة اللون فوق الوجنتين والعينين، وأحمر شفاه. كانت تصطحبها والدتها، التي بدت أكثر تفهما لوضع ابنتها، وأنها مستعدة للانخراط في علاجها، تبعا لنصائح الطبيبة المعالجة لها، إذ اصطحبت ابنتها إلى حصة العلاج النفسي، وبعد لحظات، انضمت مجددا إلى قاعة الانتظار، ثم عاودت الطبيبة المناداة على الأم من جديد، قبل أن يخرجا، هي وابنتها، لمغادرة مصلحة طب الإدمان بتوديع من الطبيبة وبمبادلة بعضهما البعض ابتسامات خجولة. وعلمنا في ما بعد أنها من بين المدمنين على المواد المخدرة الأكثر الخطورة.