لا يستغربن أحد من العنوان، أو يظن أننا نقصد تكفير المسلمين، كما يفعل الجاهلون؛ لكننا نريد أن نطرق موضوعا يغفل عنه الناس، ولا يتبيّنه إلا من حقق تدينه؛ ألا وهو الوقوع على منطق الإيمان. يتوهم كثيرون أن الإيمان لا منطق له، لمعرفتهم بمفارقته للفكر؛ أو لإخضاعهم إياه للفكر. ولسنا نعني بهذا الأخير، إلا الفكر الديني. ولعل قائلا يقول، فما دام للفكر الديني وجود، فلا شك أنه سيكون مؤسسا على المنطق الإيماني المذكور؛ فنقول: من هنا أُتي الدين؛ لأن المنطق الذي اعتمد في الفقه أو في علم الكلام هو منطق فكري مجرد، يليق بالسياقات الفلسفية؛ أما المنطق الإيماني الذي نعنيه، فهو أوسع من ذلك بكثير؛ بل إن سعته لا نهاية لها. وكيف لا يكون الدين لا نهائيا، وهو رباني المصدر !.. لن ندخل في التفاصيل هنا، بقدر ما سنرصد التيارات الفكرية داخل الدين. وأول ما يحتك المتدين (العالِم على الخصوص) به، الفقه. والفقه في جزء منه خاضع للمنطق العام؛ لكنه لا يتقيد به في كل شيء. وهذا الإطلاق الفقهي، لا يعلمه إلا الربانيون من أمثال الإمام علي عليه السلام، الذي قال: "لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ، لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ؛ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ"[1]. والرأي هنا، هو القياس العقلي، الذي يعتمده الفقهاء في كثير من استنباطاتهم. وأما المتكلمون، فطمعوا في معرفة الله بإعمال العقل في النصوص ومن خارجها، فلم يحصّلوا شيئا يُذكر؛ إلا ما كان من أصل إيمانهم، شبيها بإيمان العجائز. وإن أسوأ ما وقع فيه أهل الكلام، قياس الحق على الخلق. وضلّوا في هذا باللفظ المشترك، وتوهموا أنه لا يؤدي إلا معنى واحدا. فأخذتهم عقولهم بعيدا عن الحق. ولا أحد يصدق عليه قول الله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، كالمتكلمين. ولعل سائلا يسأل: فإذا كان الفقه والكلام (العقائد)، لا ينفع فيهما المنطق العقلي؛ فما الذي ينفع؟.. فنقول: أولا ينبغي أن نفرق بين العلمين. وذلك لأن الفقه مأذون فيه، من قِبل الشارع، باستعمال العقل؛ لكن في حد الضرورة، ودون التوغل فيه؛ حتى لا يصبح رياضة عقلية منفصلة. أما الكلام، فإعمال العقل فيه بدعة مخالفة لأصل الدين من البداية. والسؤال هنا هو: على أي شيء بنيت الأحكام الفقهية في أصلها؟ وإلى أي منطق تستند معارف العارفين؟ فنقول: إن كل هذا، يرجع إلى الحقائق. والحقائق، هي التي سماها الله في كتابه "سنة الله"؛ كما في قوله سبحانه: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]. وما لا يتبدل، هو ما تقوم عليه العلوم. وعلى هذا تكون هذه السنن الإلهية، كالسَّدى واللحمة، اللتين يقوم عليهما كل ما ظهر من الغيب إلى الشهادة. وإذا رجعنا إلى الأحكام الفقهية، فإننا سنجدها تقوم على اعتبار هذه السنن. فمن رزقه الله العلم بها، فإنه يعلم الحكم من باطنه ومفرداته الأولى (بسائطه)؛ بل ويعلم وجه اختلاف الفقهاء، من وجهٍ لا علم لهم به هم أنفسهم. فيكون أعلم بالفقه من الفقهاء، من طريق غير طريقهم. وهذا من أشد ما يؤلمهم إن صادفهم؛ لأنه يشعرهم بالعجز في مقابله. خصوصا إن ظهر على من لا اشتغال له بالعلم في العادة؛ كما يحدث مرارا، مع الأميين من الأولياء!.. هذا مع الفقه في أصله، ومع صفاء العقل (وهذا لا يجتمع غالبا إلا لأئمة الفقه)؛ فكيف إن زاد على ما ذكرنا، الغفلة والظلمة!.. وهذا هو ما وقع للفقهاء، بعد القرون الثلاثة الأولى. نتج عن هذا الانحراف، أن صارت المعاملة للأحكام، لا لله. وهذا لا يكاد يشعر به العوام (والفقهاء منهم)، ويرون أن معاملة الأحكام هي معاملة الله ذاته سبحانه؛ والحقيقة غير هذه. نعني أن معاملة الأحكام وحدها، تجعل الدين مقطوعا، ولا يعطي ثماره. وهذا يريح الفقهاء، بسبب إهمالهم لبواطنهم؛ لكنه في المقابل يفقدهم حقيقة التدين. ثم يزداد الفقهاء ظلمة، عندما يستلذّون اتخاذ العوام لهم وسائط، بينهم وبين الدين؛ إن لم يكن بينهم وبين الله، عند حصول الغفلة من الجانبين (الفقهاء ومن يأخذ عنهم). وقد وقعت الأمم السابقة في هذه الآفة، حتى صار أحبارهم يتحكمون في الدين كله؛ يُحلّون منه ويُحرّمون بحسب ما يعنّ لهم. وهنا يصير الفقهاء أربابا من دون الله، كما قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. والتحليل والتحريم، ليسا دائما بالصورة التي تتبادر إلى الأذهان؛ وإنما قد يخفيان عن الفقيه وعمن يأخذ عنه؛ ولا يرى ذلك على حقيقته إلا صاحب بصيرة. ومن ينظر إلى حال فقهائنا في هذا الزمان، فإنه سيجد أكثرهم قد دخل في الربوبية وأبعدَ.. ومن أثر دخول المنطق الكفري على الدين، اعتبار الدنيا فيه؛ ومن هنا صار العوام يرون أصحاب السعة من أهل الدنيا، مرْضيّين عند الله؛ ويرون أهل البلاء بعكس ذلك؛ وهذا مخالف لمنطق الإيمان الذي ذكرناه. والدين في أصله يعتبر الآخرة، لا الدنيا؛ نعني استراتيجيا. وأما الدنيا، فيعتبر منها ما يخدم الآخرة حصرا. ومن هنا كان الاهتمام بالشؤون السياسية عند المسلمين، مخالفا له عند الكافرين. فالكافر ليس في حسبانه إلا الدنيا؛ وهو يريد أن يعيش العدل والرخاء (بحسب إدراكه) فيها. ويرى أن كل كلام عن الآخرة، إنما يُراد منه استغفاله؛ لا غير. وقد تسرب هذا المنطق إلى عوام المسلمين، عندما ضعف إيمانهم. وزاد هذا الأمر، عندما دخل متسيّسو الفقهاء فيه؛ فأصبح المسلمون لا يكادون يختلفون عن الكافرين في النظر إلى الأمور. زد على هذا، تسرب الفكر الكفري نفسه، عبر المؤسسات التعليمية المعاصرة، التي نقلت ما عند الكافرين إلى بلاد المسلمين، من دون احتياط أو غربلة. وهذا المنطق الكفري الذي دخل على الدين، هو سبب الاضطراب والخلط المعرفيّيْن، اللذين تعيشهما الأمة في هذا الزمان. وهو السبب المباشر لهذه الفتن المتتالية (الثورات)، التي ستأتي على كثير من البلدان والأنفس. وقد يقول قائل: وهل السكوت على الظلم والفساد، من منطق الإيمان؟ فنقول: قطعا، لا!.. والفهم الذي خلْف السؤال، يؤكد ما ذكرنا من تسرب المنطق الكفري إلى الدين؛ لأن المقابلة بين العمل للآخرة، وبين السكوت عن المنكر، لا تأتي إلا منه؛ بما أنه لا آخرة لديه. ونحن عندما نتكلم عن منطق للإيمان في النهي عن المنكر مثلا، فإنما نريد أن يكون الناهي عاملا لله في ذلك!.. وهذا ليس في متناول عوام المسلمين. ومن هنا أُتيت الجماعات الإسلامية. نعني أنها تقمصت العمل لله (بحسب الظاهر)، والقلوب لدى أفرادها لا تزال متوجهة إلى الدنيا. وظنوا أن الانطلاق من النصوص ظاهريا، والاستشهاد بها فيما يأتون، ينفع. والحقيقة هي أنهم أغفلوا عملا ضروريا لبلوغ مطابقة أقوالهم لأحوالهم، وهو تزكية قلوبهم. والتزكية بمعناها الشرعي الأصلي، هي الشرط الذي لا يُدرك بدونه منطق الإيمان. ومن المنطق الكفري الذي دخل الدينَ أيضا، العمل برأي الأغلبية العددية؛ ومن هنا حُرّف معنى الجماعة، لدى أهل السنة خصوصا (أهل السنة و"الجماعة")، عندما فارق في الأزمنة المتأخرة معنى الجماعة في الشرع؛ رغم أن المعنى يُحدَّد بالنظر إلى موافقة الشرع أولا، لا بالنظر إلى العدد. ولا زال هذا المنطق عاملا في الأمة إلى اليوم، مع ثبوت عكسه في أحيان كثيرة بالقرآن والسنة. ومن ذلك قول الله تعالى (على سبيل الذكر لا الحصر): {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]؛ وقوله سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]؛ ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»[2]. وهذا واضح، في كون الحق لا يُعرف بالكثرة. وقد يكون منطق الإيمان معاكسا تماما للمنطق العام؛ عندما تصير الخسارة فيه ربحا، والخيبة والإخفاق فلاحا؛ خصوصا فيما يعود إلى الأنفس والأموال. ولو كانت الشعوب تعمل على منطق الإيمان، لما سخطت لقلة الأرزاق، ولا لمخالفة الأغراض؛ بل لوجدت ذلك كله نافعا لها في الآخرة، ولشكرت الله عليه. ولو كان الفقهاء، يعرفون منطق الإيمان عمليا، لدلوا الناس عليه!.. ولكنهم أسوأ من العامة في التوجه إلى الدنيا؛ لهذا زادوهم رهقا بما يقولون. وأما العلماء حقيقة، فإنهم يتقللون من الدنيا اختيارا، ولا ينتظرون أن تكون هي هاجِرتَهم. وعلى هذا الأصل، كان عمل الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم. وأمثال هؤلاء عندما يأمرون بمعروف أو ينهون عن منكر، فإنهم يكونون أجانب فيه، ينطقون بلسان الشرع فحسب. وكيفما كانت نتيجة الكلام في نفس المأمور والمنهي، فإنها لا تؤثر فيهم شيئا. وهذه هي النزاهة الحق، التي لم تعد معلومة في العصور المتأخرة. وأما الربانيون فهم فوق هذه المرتبة؛ وحالهم لا يعلمه إلا أمثالهم. وإن وُجد أحدهم في قوم، فليتخذوه بوصلَتَهم في الدنيا والآخرة؛ لأن الله يُطلعهم به من غيوبه، على ما لا يخطر في بال. فالحمد لله الذي جعل منهم في هذه الأمة، ما لا تكاد الأمم السابقة كلها، تظفر بعشر عشير معشاره.
[1] . أخرجه أبو داود عن علي عليه السلام. [2] . متفق عليه؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.
يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 563 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.