فؤاد بوعلي ما يحدث جنوبا يحتاج منا إلى الكثير من المتابعة والانتباه. إذ تتداول العديد من الأوساط الإعلامية والبحثية المستقلة الأحداث الجارية في مالي ومنطقة الساحل، ليس باعتباره حدثا عرضيا ينتهي على الصيغة الإفريقية بانقلاب عسكري يعيد صياغة الولاءات الخارجية والتحكم في مصادر القرار، بل باعتباره بداية نهاية النفوذ الكولونيالي الفرنسي. فمنذ مدة تعيش مالي أحداثا هامة تؤذن بتغيير الخريطة الجيوستراتيجية للمنطقة والقارة الإفريقية والعلاقة مع المستعمر القديم. فالاحتجاجات الشعبية التي أطلق عليها الزعيم اليساري الفرنسي ميلونشون اصطلاح "الثورة المواطنة" والتي شارك في قيادتها العديد من الساسة والعلماء، وليس رجال الدين فقط كما يحاول الإعلام الفرنكفوني إيهامنا بذلك، من التوجهات الإيديولوجية المختلفة، انتهت بانقلاب عسكري مدعوم مجتمعيا على الرئيس السابق، لكنه في الواقع تغيير لنظام ارتبط ذيليا بالمستعمر القديم. فقد دأبت فرنسا عبر وجودها العسكري والاقتصادي والثقافي فرض هيمنتها على دول الساحل المختلفة للحفاظ على مكاسبها الاقتصادية في ملكية الموارد القيمة بالمنطقة، مستفيدة من الأوضاع المتوترة كما حدث في منطقة الطوارق للحفاظ على شرعية وجودها بأفريقيا. ودوما كان يقدم الرؤساء الفرنسيون عبر البروباغندا الاستعمارية باعتبارهم أصدقاء إفريقيا وداعمي الاستقرار فيها والأوصياء على تنميتها، كما حدث للزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي السابق. لكن الأمور بدأت تتغير وأصبحت الشعوب أكثر إيمانا بأن التحرر من الاستبداد والفساد لا يتم إلا عبر طرد فرنسا ووكلائها من البلاد، أو كما قال عالم الاجتماع الغيني أمادو دونو في عبارة: "كل بؤس إفريقيا يأتي من فرنسا…فرنسا ليست شيئا بلا أفريقيا!". فحين ننظر إلى خريطة المناطق التي تعاني من انعدام الأمن في الساحل كما رسمتها وزارة الخارجية نفسها، ندرك أن نصف البلدان التي تقع تحت النفوذ الفرنسي تقع في المنطقة الحمراء. هذه الكارثة الأمنية هي إذلال جيوستراتيجي لفرنسا حسب الإعلامي الفرنسي المقيم بباماكو توماس ديتريش. فالدول التي ابتعدت عن الهيمنة الفرنسية كليا أو جزئيا بدأت تتلمس سبيلها نحو الأمن والازدهار والنمو الاقتصادي وتستعيد حياتها الطبيعية. لذا لا ينظر المحللون إلى الانقلاب الأخير على أنه سيطرة عسكرية على مقاليد الحكم بل هو استكمال لتمرد مدني طويل ضد قوة متحالفة مع فرنسا و"المجتمع الدولي"، فقدت مصداقيتها داخليًا تمامًا وأصبحت مدافع المحتجين موجهة نحو باريس. من هذا المنطلق يمكن فهم تحركات هذه الأخيرة ضد التغيير الحاصل في باماكو واستصدار القرارات الدولية لصالحها. لكن الواقع أن الشعوب الأفريقية في الساحل خاصة بدأت تضيق ذرعا من الهيمنة الفرنسية وتحكمها في مصائر المواطنين عبر الأنظمة المستبدة. فالاحتجاجات التي انطلقت مالية بدأ صداها يتردد في ساحل العاج وتشاد والكاميرون وغيرها من دول الجوار. كيفما كان التغيير الذي ستعرفه مالي خلال الأيام المقبلة، وكيفما كانت رؤيتنا لطبيعة التحول، فإن الحركة الاحتجاجية التي تكاثفت داخل هيئة مدنية مواطنة متعددة الانتماءات والإيديولوجيات تؤذن ببداية عهد جديد في إفريقيا ينسلخ من الهيمنة الفرنسية وتأخذ الشعوب بزمام التغيير. فعندما نشرت إحدى المنابر الصحفية الفرنسية تقريرا مصورا حول الأحداث الجارية معنون "نهاية الإمبراطورية الفرنسية " صدم معدوه بعدد التعليقات الرافضة للوجود الفرنسي في دول إفريقيا. وقبل مدة ليست طويلة عبرت العديد من دول غرب إفريقيا عن رغبتها في قطع الصلة المالية مع فرنسا حين اتفق قادة المجموعة الاقتصادية "إيكواس" على إطلاق عملة جديدة مشتركة بين أعضاء المجموعة على أنقاض الفرنك الإفريقي المرتبط مباشرةً بالمصرف المركزي الفرنسي الذي يتعامل به معظم أعضاء المجموعة، مما سيمنع عن باريس احتياط كبير من العملات التي اعتادت هذه الدول على وضعه لدى الخزانة الفرنسية. فالعقلية الاستعمارية التي مازالت تحكم سادة الإليزيه والتي تجعل نظرتهم لدول إفريقيا مؤطرة بالاحتقار والتبعية، كما يبدو في تصريحات ماكرون ونخبته المتكررة، مثل التصريحات العنصرية لطبيبين فرنسيين على قناة تلفزية حول تجارب اللقاحات بشأن فيروس كورونا وكيف يمكن أن تكون أفريقيا مختبرا مناسبا لها، وتعامل السفراء في الدول المستعمرة سابقا، قد آن أوان زوالها. وإذا كانت الأنظمة لها حساباتها الخاصة فالشعوب لها قراراتها وخياراتها وذاكرتها التي لن تنس آلام المستعمر القديم الجديد. ملحوظة: "مقالات الرأي لا تعبر عن قناعات الجريدة وفريق عملها"