بقلم: ياسين بن ايعيش يعتبر مشكل العزوف عن القراءة، من بين الاشكالات التي تعاني منها معظم الدول التي تاهت عن قاطرة التقدم إلى يوم الناس هذا، غير أن هذا الإشكال يُقَابلُ في الغالب بإلقاء اللوم على ” الأنا الجمعية “، ومن ثمة ترديد عبارات من قبيل “أمة إقرأ لا تقرأ “، ولعل في هذه العبارة وما شاكلها ما يدعونا إلى وقفة تأمل قد تجرنا نحو متاهات أيديولوجية لا يسمح المقام بالانجرار خلفها، لذا لنا أن نطرح بدل ذلك أكثر من علامة استفهام، نتغيى من خلالها النبش في أغوار العوامل التي قد تقف وراء تفاقم هذا الإشكال العويص، من قبيل: لماذا يتفاقم مشكل العزوف عن القراءة، في الوقت الذي تعرف فيه مواقع التواصل الاجتماعي إقبالا هائلا من لدن مختلف شرائح المجتمعات؟، وأين يكمن سر هذا التناقض الصارخ الذي قد يثار بخصوص هذه المفارقة الغريبة؟، هل يمكن أن تكون مواقع التواصل الاجتماعي أحد أبرز العوامل التي اسهمت في انخفاض معدل القراءة في الدول غير المتقدمة على وجه الخصوص، ومختلف دول العالم بصفة عامة؟ أم أن هناك ما يفسر هذا العزوف؟.. هذه أسئلة وغيرها مما أثير ومما يثار بشكل مستمر، سواء سرًّ أو علنًا، ومعلوم أن هناك جملة من الإجابات الجاهزة التي تبرر تفشي ظاهرة العزوف عن القراءة، من قبيل تبعيات مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فهل لنا أن نُسَلِّمَ بتلك الإجابات الجاهزة؟، والتي نراها، حسب وجهة نظرنا، مجرد تبريرات للتقاعس عن الإقرار بجوانب خفية قد تجعل مما يراه البعض سببا في ارتفاع معدل العزوف عن القراءةأمرًا موضوعيا يكشفمستورًا. إجابةًعن سؤالنا الاستنكاري نقول: طبعا لا يمكننا الركون إلى ثقافة التسليم بالجاهز. ويكفينا، حتى وإن لم نوفق للإجابة السليمة، فضول المعرفة المفضي إلى تجديد طرح السؤال. إنالسؤالالمطروح حول أسباب العزوف عن القراءة، لا يعني انعدام فعل القراءة بشكل نهائي، وإنما يحيل إلى انخفاضه. لذا، لنا أن نلاحظنسب الكتب المقروءة؛ بغية تحديد نوع الكتب الأكثر إقبالا، خاصة في مجال الأدب؛ لأن من شأن هذه الملاحظة أن تقدم لنا بوادر الإجابة عن الإشكال المحوري. من الملاحظ أن الكتب التي تعرف إقبالا من لدن القراء، بعيدا عن نظرة القارئ المتمرس والمتخصص في مجال أدبي معين،هي الأعمال السردية، تحديدا الرواية والقصة،فما هو تفسير هذا الاقبال؟،دون الابتعادعن الإشكال المطروح سلفًاالمتصل بظاهرة العزوف عن القراءة. إن من بين الاجابات التي تحضرنا بخصوص الإشكال المتار، إمكانيةربطانخفاض نسبة فعل القراءة إلى تراجع تلك “القوة التأثيرية”، أو لنقل بصيغة أخرى إلى تقلص”القوة المغنطيسية” التي كانت تمارسها النصوص على القارئ؛ ولربما هي القوة التي تمتاز بها النصوص السردية؛ إذ تسهم في جدبه صوبها من حيث لايدري، ومن ثمة شحنه برغبة الفضول للاطلاع على ما يوجد بين دفتي صفحاها، وأحيانا فتح شهيته للإقبال المتزايد على نصوص أخرى تشبهها. إنْ صح لنا أن نقبل هذه الإجابة، أو على الأقل بحيز منها، فسنقول:إن ما يوجد في الأعمال السرديةأو ما تحققه لا يوجد في غيرها، ولعل ذلك الموجود هو ما يسهم في الاقبال عليها بلهفة دون غيرها، بل لربما قد يكون هو نفسه المشترك الذي تحققه مواقع التواصل الاجتماعي أيضا؛ ببساطة يمكن أن نتحدث عن “اللذة “؛ وهي شعور داخلي يُشكِّلُعلاقة حميمية، وتجاوبًا بين القارئ وبين نص معينأو كتاب معين استطاع أن يستحوذ باهتمام قارئ ليتجاوب معه؛ أي ما يمكن أن نسميه: ” لذة النص “، تماما كما استحوذت اليوم مواقع التواصل الاجتماعي باهتمام الناس فصارت خير جليس، بعدما كان الكتاب هو الجليس المفضل للإنسان، دون أن ينازعه أحد في موقعه الطبيعي. حتى وإن كنا ننكر ونستبعد، ولو بعواطفنا، إمكانية أن يَحُلَّ مكان الكتاب جليس آخر، يؤسفناالقول إن هذا المعطى يفرض نفسه بقوة، وسيظل ما لم تستطع الكتب، في مختلف المجالات والتخصصات، الاستحواذ على اهتمام القراء، وخلق تلك اللذة المفقودة؛ فحينما يفتقد القارئ التجاوب مع كتاب ما، تهجره رغبة القراءة، ومن ثمة يحدث انفصال بينهما، لينتهي به الأمر إلى حد القطيعة والنفور من الكتاب، مما يخلق علاقة عدائية بينه وبين ذلك النص، وقد يتطور الأمر إلى النفور من كل أعمال مُؤلِف الكتاب المنبوذ من لدن القارئ ما لم تستحوذ هي الأخرى باهتمامه، وقد يتعداها إلى النفور من كتب أخرى للسبب نفسه، وهكذا تتسع رقعة الانفصال الحاصل بين القراء والكتب. انطلاقا مما سقناه آنفا من معطيات لا تتعدى حدود الإشارة؛ كون الموضوع يحتاج إلى مزيد من التفصيل والتدقيق سنعمد إليهما في فرصة أخرى، يبقى لنا أن نتساءل: ما هو مصدر تلك اللذة التي تحققها نصوص دون أخرى؟،هل يكمن السر في اللغة الموظفة؟ أم الأسلوب؟، أم أن هناك جوانب أخرى تقف وراء تلك القوة المغناطيسية؟.