سأل سائل: أيستحق اتهام الهلالي حزب النهضة والفضيلة بالوصولية كل هذا العناء في الردود؟ أليس من الأولى أن يتفرغ المرء لفضح أعداء الدين والعلمانيين والصهاينة، بدل أن يكرس جهده ووقته للرد على رجل قد يصيب وقد يخطئ؟ أتكون هذه الكتابات مجرد تصريف خلافات شخصية، وتصفية حسابات قديمة، بين أصدقاء الأمس "أعداء" اليوم؟ أيكون الدافع الحقيقي وراء هذه المقالات هو فقط الكره والشنئان، وليست مصلحة البلاد والعباد؟ لستُ أدري.. ليس مستحيلا أن أكون مخطئا، أو كارها، أو مجرد حاقد ، فأنا مجرد إنسان أعيش في جسدي، ولا أستطيع أن أراه من مكان آخر، وأفكر من داخل رأسي، ولا أستطيع أن أتأمله من خارجه، ولعلي بسفاهة أولئك الذين أبالغ في تسفيههم، أو ربما كنتُ أدهى منهم وأمر، لكني أعجز أن أستوعب حجم الزلل الذي أقع فيه، وتهافت المنطق الذي أحلل به، وفظاعة الفكر الذي أفتخر بترويجه، مثلما يعجزون. من أجل هذا كلِّه، أرى أن الرد عليّ من أولى الأولويات، وأوجب الواجبات، حتى إذا كنتُ على ضلال ظهر عُوار كتاباتي، وسفاهة أفكاري، وصفاقة تحليلاتي، فيُعذرُ خصومي يوم يكونوا بين يدي الله تعالى، بأن أقاموا علي الحجة البالغة، والبينة الدامغة، وأنني كابرتُ وعاندتُ، وتجاهلتُ وتعاليت، واتبعتُ الهوى وما تشتهيه الأنفس، كما أنني، إذا كنتُ على باطل، أوشك أن أنشر الغي والضلال، وأروج الأفكار الهدامة التي تفسد ولا تصلح، فكان لزاما أن يرد علي من يستطيع ذلك، حتى يُخَلِّص المجتمع من أفكاري المسمومة، وأرائيَ المذمومة، فإن لم يوجد من يستطيع ذلك، فصَلِّ على هذا الحزب الإسلامي وعلى هذه الحركة الدعوية صلاة الغائب. لن أسامح الهلالي وأصحابه يوم القيامة، إذا لم يبينوا لي الحقيقة المفزعة للحزب الذي أنتمي إليه، ولن أغفر لهم إذا لم يأتوني بالحجج والبراهين التي تؤكد أنه حزب وصولي ومخادع، ولن يبق في قلبي ذرة من الاحترام لهم، إذا تركوني أشتغل مع "قراصنة" هذا الحزب، أبذل الجهد العميم وأقدم التضحيات الجسام، وهم يرفعون يافطة المشروع الإسلامي، لكنهم في الحقيقة يعبثون به، ويطعنوه من الخلف، لكني لستُ على علم بذلك، فوجب أن يحذرني من يعلم، فيريح ويستريح. إنني والهلالي لا نتراشق بالحجارة كالصِّبية، وإنما نتقارع بالأفكار والآراء أمام الرأي العام، حتى تحيى أفكار النبوة وتربو، وتموت أفكار السوء وتندحر، فكل عمل مشين وراءه فكرة نتنة، وكل سلوك شاذ تدعمه رؤيا خبيثة، فكم من أناس قُتلت، وكم من أعراض انتهكت، وكم من مساجد أو كنائس هدمت بفعل أفكار شاذة، وعقائد فاسدة، فلا يستهينن جاهل بما تفعله الأفكار الهدامة من مصائب وطامات في المجتمع، ولا يستهينن بما تُشيعه الأفكار الطيبة من خير وبركة ونماء. لقد ظل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، يُبَدِّل أفكار الناس وأراءهم، ويصحح مفاهيمهم وعقيدتهم، ولم يعرِّج الهلالي وأصحابه على أن ذلك مضيعة للوقت، أو مهدرة للجهد، فما الذي حباهم على أن يؤاخذوني على مقالات مكتظة بالآراء والأفكار، وما الذي جعلهم ينتقدوني على محاولاتي لتصحيح منطق الناس، وإزالة الغشاوة من على عيونهم، وتبديد الظلمة في نفوسهم، وإشعال شمعة في عقولهم الصغيرة، فإنما أنا رجل أتأسى بالنبي الذي بعثه الله إليّ وإليهم. حينما نعجز عن الدفاع عن أفكارنا، والإدلاء بأدلتنا وبراهيننا، وتوضيح منطقنا للناس، فنحن مجرد طائفة تشتغل في الظلمة، ولا تستطيع أن تشتغل في النور، ونصير، من عجزنا، آلة لتفريخ التصنيفات للناس، ورميهم بما تجود به قريحتنا من اتهامات وتخوينات، فمن انتقد حكومتنا فهو مشوش، ومن انتقد حركتنا الدعوية فهو علماني أو استئصالي، ومن كتب فينا مقالا فهو مجرد حاقد أو عدو للمشروع الإسلامي، ونحن لا نرد عليه لأننا لا نستطيع ذلك، ولكن لأنه لا يستحق الرد. إن الله تعالى قد أمر رسوله الكريم بأن يرد على الكافرين والمشركين في كتاب خالد إلى يوم الدين، فقد قال تعالى: "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه، قال من يحي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأنا أول مرة وهو بكل خلق عليم"، سورة يس، آية 78،79. وقال عز وجل: "وقالوا لا تنفروا في الحر، قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون" سورة التوبة، آية 81. إن الله تعالى لم يقل لرسوله بأن قولهم هذا لا يستحق الرد، رغم أنه قول فظيع، وكفر وشرك عظيمين، وإنما أمره بأن يرد عليهم بقول، سيظل المؤمنون يتعبدون بتلاوته حتى يرث الله الأرض ومن عليها. حينما نعجز عن إقناع الناس بمنطقنا أو فكرنا، لا نلومهم إذا ما انصرفوا عنا، أو غيرّوا وِجهتهم إلى هيأة غير هيأتنا، وحينما لا نقو على أن نرد على مقال ينتقدنا، أو بحث يطعن في توجهاتنا ويستنفر كثيرا من آيات القرآن، وكثيرا من أحاديث النبي العدنان، وجب علينا أن نقدم اعتذارا لأتباعنا، أن كنا عاجزين عن الدفاع عن الفكر الذي به استقطبناهم للاشتغال معنا. إننا رغم العجز الرهيب الذي نعانيه في مجال الفكر والمنطق، مطمئنون من نتيجة غزوة الصناديق، متيقنون من أننا سنكتسح الانتخابات، طالما أن الحب المرضي الذي يكنه لنا أتباعنا، سيمكنهم حتما من إيجاد ما يبررون به أفعالنا مهما شذت، وأقوالنا مهما نأت عن جادة الصواب. إن السيد الهلالي لا يُمثل شخصه أو أصدقاءه أو أقاربه، لكنه يمثل حركة دعوية يحتل فيها منصب نائب الرئيس، ومن هذا المنطلق، تكتسي تصريحاته أهمية خاصة، لأنها صادرة من الرجل الثاني لحركة إسلامية، وحتى على افتراض أنه بشر يصيب ويخطئ، فإن الحركة الإسلامية مدعوة لتصحيح خطئه، ومطالبة بتِبيان زلله، أو إصدار بيان تتبرأ فيه من تصريحاته الشاذة، التي تكرس لعقلية الطائفة الناجية، لكن لا شيء من هذا وقع. عندما أصدرت حركة التوحيد والإصلاح بموقعي بوجدور ووجدة، بيانا تضامنيا مع الداعية عبد الله انهاري فيما يسمى بقضية الغيزوي، أصدر رئيس الحركة تحذيرا لهذين الموقعين، وصرح بأن الهيآت التنفيذية هي الجهة المخولة لها إصدار مثل هذه البيانات، وأن هذين الموقعين لا يعبران عن آراء أو مواقف الحركة. إن الشيخ انهاري لم يحل دم الغزيوي، فنحن نعرفه جيدا مثلما يعرفه الجميع، وهو مسؤول منطقة سابق بحركة التوحيد والإصلاح، ومن بين أكبر أسباب قوة حزب العدالة والتنمية في الوطن أكمل، ومع ذلك كله فقد تبرأتْ منه الحركة، فلماذا لا تتبرأ من تصريحات السيد الهلالي، الذي أحل دم حزب إسلامي حينما حكم عليه بالوصولية والخداع. إن قياديي حركة التوحيد والإصلاح، لم يترددوا في إبداء موقف الرفض مما صدر عن السيد الهلالي من غلو وتنطع، لكنهم لا يُصرحون بذلك إلا في المقاهي والبيوت والمجالس الخاصة، وهذا ليس له أي اعتبار، ومن غير قيمة تُذكر، كالذي يشتمك على الملإ، ويعتذر إليك في الخفاء، ولولا أن الله تعالى نهانا عن سوء الظن، لزعمنا جازمين أن هذا الأمر إنما هو توزيع الأدوار، وتبادل المهمات، وإلا ما الذي يمنع المكتب التنفيذي للحركة من إصدار بيان حقيقة؟ وهو المؤسسة الدعوية التي من المفروض أن لا تتوانى في نصرة الحق، ولا تتأخر في مقارعة الباطل؟ إننا، ونحن في مؤسسة شرعية أو دعوية، نفكر بعقيلة السياسيين "الدهاة"، فالبيان الذي أطالب به من شأنه أن يرفع في المجتمع أسهم حزب النهضة والفضيلة الغريم، وهذا خطر داهِم يحدق بحزبنا الإسلامي الأصيل، ونحن غير مستعدين لتقاسم القاعدة الانتخابية معا أيّ كان، حتى وإن كان حزبا إسلاميا آخر، ينطلق من حيث ننطلق، وينتهي حيث ننتهي، لأننا تشربنا ممارسات السياسيين الذين إذا نظروا لا يرون إلا ذواتهم، وإذا دبروا لم يصغوا إلا لعقولهم. إن عملية تبادل الأدوار مؤامرة أخلاقية تُحاك ضد الشعب المسكين، فمن شأنها أن تربك عقول الناس، وتشوش عليهم أفكارهم، وتجعلهم تائهين بين مواقف متناقضة، وقرارات متباينة، فيعسر معرفة حقيقة الهيأة أو الجماعة أو الحزب الذي يقوم بتوزيع هذه الأدوار. على سبيل المثال، عندما أعلن حزب العدالة والتنمية رسميا مقاطعته لتظاهرات 20 فبراير، ووصف السيد بنكيران هذه الحركة "بالغيّاطة والطبالة"، وهدد شبيبته من معاكسة هذا القرار، رغم أن الشبيبة هيأة مستقلة، غير خاضعة لسلطة الأمين العام، تجد أفتاتي والرميد قد انخرطا في هذه التظاهرات، وحين تسأل عن هذا العبث السياسي، يُقال لك بأن الرميد فعل ذلك بصفته محاميا وناشطا حقوقيا، وليس بصفته عضوا للأمانة العامة، وأما أفتاتي فبصفته برلماني الأمة، وليس بصفته برلماني الحزب، وبهذا نكون سياسيين محنكين، نرضي جميع الأطراف، ونلبي جميع الأذواق، ونخرج من الورطة بدون خسائر تُذكر. بل نجل بنكيران نفسه، قد نزل إلى الشارع مع هذه الحركة، وهذا ما خفف حدة التذمر الذي أصاب مناضلينا، وامتص آبار الغضب التي صارت تجري في عقول شبيبتنا ونفوسهم، ولما سئل ابنه المصون عن هذا الموقف، أجاب بأن أباه لم يُقنعه بالعدول عن النزول للشارع، ولا ضير في ذلك، فسيدنا نوح أيضا قد عجز عن إقناع ابنه بركوب السفينة. لقد صرنا عن جَد، سياسيين بما تحمله الكلمة من معنى، نعرف جيدا من أين تُأكل الكتف، وكيف تورد الإبل، وصرنا نعرف كيف نقدم في النازلة الواحدة ألف رأي وموقف، فلا نخسر طرفا، ولا نُغضب طرفا آخر، ولا نؤلب علينا طرفا ثالثا، وصار قياديونا يتوزعون حسب الحاجة، إلى دوائر ضيقة حسب الصفات المرجوة، فأحد قياديينا يلعب دور الحكيم الرزين، فنستقطب به الحكماء، وآخر دور الأحمق الذي يسب جميع المخالفين بدون استثناء، فنستقطب به الأميين الجاهلين، وما أكثرهم في بلدنا الحبيب، وثالث يلعب دور الوسيط بين هذا وذاك، فنوشك أن نستقطب به الجميع. في أيام مهرجان موازين "المبارك" والشفاف، نظمت منظمة التجديد الطلابي مظاهرة ضد إقامة هذا المهرجان، واعتقل فيها عضوان من المنظمة، على يد رجال الأمن التابعين لوزارة الداخلية، العاملة تحت إمرة رئيس الحكومة، الذي هو في نفس الوقت، أمين عام الحزب، الذي يوسع انتشاره في الجامعة عبر منظمة التجديد الطلابي. ولستُ أدري ما الذي يجب أن يُستفاد من هذه الواقعة؟ هل على الطلبة المستقلين أن يتبرؤوا من هذا الحزب بحجة أنه المسؤول على اعتقال المناضلين الشرفاء، وتنظيم هذه المهرجانات الفاسدة؟ أم عليهم الانضمام إليه، على أساس أن منظمة التجديد الطلابي منظمة شريفة، تقارع المنكر والفساد من موقع أنها الذراع الطلابي لحزب العدالة والتنمية؟ إن الأساتذة الجامعيين، والمثقفين، والمفكرين، والدهاة..، يقفون عاجزين عن تحليل هكذا مواقف، فكان الله تعالى في عون الشعب المسكين. إننا أيام المعارضة نملأ الدنيا صراخا وعويلا ضد موازين، وحينما نعتلي كراسي الحكم، نعتقل بعض شبابنا المناهض لهذا المهرجان، حتى يكتسب بعض التجربة في مخافر الشرطة، فنهيئه بذلك للمعارضة في البرلمان والنعيق من جديد، على أساس أن يعتلي في المستقبل القريب بدوره سدة الحكم، فيعتقل بدوره بعض الشباب من الجيل القادم. لقد صار دين الله تعالى عرضة للعابثين المحترفين، والسياسيين المحنكين، فنحن ننتظر الساعة، أو ننتظر فرجا من الله قريب. يُتبع