بعد ديوانيه " أطياف تراوغ الظمأ " و" خلف البياض" ، وعلى امتداد خارطة إبداعية لافتة، وحسب المستشفّ من مجمل منجزه الشعري الجدير بالغوص في ما ورائيات اللون،وسراديب الحكي المكتظة بالبياضات المثرثرة بوجعنا العروبي، ما ينفكّ الشاعر الفلسطيني المغترب حسن العاصي يسلك دروب الإخلاص للغصن الأول،بما الكلمة أشبه بانتحار إبداعي لاذع ، وجلد ذاتي مفخخ لملف العروبة وشتى خيوط انجذابها لأزمتها الهوياتية،دوما ثمّة هنالك في كتاباته بسط لهيمنة أصوات الدفين والغائر في الذات ، من حيث النزوع إلى بلورة نيوكلاسيكية ترتقي بشعرية القصيدة ،وتوجّه خطاب تلافيف القابع في اللاوعي ،تستقطبه إلى انصهار كريستالي في شتّى ما يترجم ثقل وتوهّج الإحساس بالانتماء إلى حقل إنساني لامّ ميسمه اللامحدود واللانهائي في تجربة تجاذب الأضداد. جرعة ألم زائدة،ما تنفكّ تخيم على أفق الرؤى المؤثثة لعوالم المعمارية الشعرية لدى صاحبنا، وتوقظ المسكون بنُثار الذاكرة، داخل حدود توليفة تعبيرية مكمنها البوح القاهر والمتسربل بنفس ملحمي خفيض ومناوش بخلطة أيديولوجية جمالية يطبعها اختمار روحي طيفي صاقل لمرايا الماهية الموجوعة والمطعونة في قضايا المساس بقدسية البعد الهوياتي في لبوسه العروبي، حدّ اختزال القصيدة وسكبها فيه. يشتقّ حسن العاصي معجمه الشعري، من تيارات حياتية تتقاذفها هواجس اغتراب روحي مزدوج ، وتجليات ضاغطة مثلما تجرد صياغتها ذاكرة المنبت، وتهمس بها الحالة النشاز في انشدادها وفلكلورية حلزونيتها والتفافها بالجذر. لذلك ، طالما شكّلت وعي شاعرنا، خيوط العنفوان في ميزان القضية الفلسطينة المسطورة أو المنقوشة في بكارة البياض، تبعا لأحرف مدادها نفحات روح مغترب يجدّف مزدانا بفروسية العاشق الغاضب الأولى بقلبه الدامي أن يخفق شعرا مشبعا بلغة الانكسار، نكاية في حثالة من زلزلوا مضارب ليلى تحت قدميه،بما المعضلة والاستشكال اغتصاب لملامح وطن عصي نابض ورافل في أريحية عروبته المكابرة ،فطوبى لنظير كهذا مجنون ملء القصيدة و حقيبة اسمها القلب يتنفسّ أقصى الدرجات وأنأى الأنجم تعشّق ليلاه المكناة فلسطين. في كتابة تستوقد بالماء،تهشّ بزئبيقة المعنى الوالج في دوامة المائيات ،والذات اكتواء وملحمة طافحة بذبول الراهن وتحجّر الآني، تنهش لُحمة الأنساق، ضاربة لنا الموعد المخملي مع حكاية الالتزام بالدورة الكاملة في المقامرات الكلامية المشحونة بهديل الهامشي والمعطّل والمهجور، من خلالها تتأمّم أو تحاول ذلك، ذات الانشطار والهذيانات المحمولة على تيميتن لا ثالثة لهما، الهوية والاغتراب، وكأنما تتوسل على عجل وخارج قيود الزمن ووفق استثمار جشع لمخزون الذاكرة، وتنشد علياء كأس الاحتواء،تماما وعلى مقاس مرثاة الأمة المشروخة والمهدّدة في مزيد من ثوابتها ودعاماتها،بما السيناريوهات حياكة خسيسة بتواطؤ يدشنه تمازج أيادي الخونة والغرباء،مطيح ولا شك بالمتبقيّ، ومحيل على دنو تآكلات وأعراض جانية تنذر بخراب وحطام شاهد على فصول المحذوف من حكاية انكسار وانحسار في ليلته بداية لياليه الكالحة والمغرقة في سوداوية جحيمية ،تحصد دونما هوادة ، بؤر الغضّ والنضر والمزهر في إنسانيتنا المهدورة أصلا : [ يفر الجرذ الدّموي إلى ركام الخشب والتراب اخرجوا منسكر الليلة الأولى ونبلا لعائلة في هذا الحطام من يملك قطرة من يطفئ لهب الجثة من منكم حدق في التكوين مرة من يقبض على جمرة من يمسك إبليس العاري/في كل العواصم من منكم يستطيع الفرح فيزمن الكستناء الوجع الضاري ينبت شوكا على أطرافك للحظة ]. قصائد تسري كأنها تدفّق معسول الأنهار الأخرى، التي هي وقف قاموس ضاربة بحفنة من ورد على خدّ مثالي يحاكي خدّ ليلانا جميعا، ونحن نتلمّظ من جهة العطشى للبرود من نبع القصيد وسلسبيله، ثمالة أمجادنا المتراقصة أو المحجوبة والمعطّلة عنّا فيها وهي المعشوقة النموذجية على مرّ الأعوام وتعاقب الأجيال، والتي ما تلبث تهزمنا غضاضة ومرارة الذبيح والمغتصب عبرها فينا دونما مواربة،وهل ليلانا إلاّ عروس المستحمات وملاكهن، السّليبة فلسطين..؟ تنهمر أسئلة الذات، مخلخلة واقع القضية ،وناكئة للجراحات الأبلغ غطسا في أخطاء التاريخ. وهو ديدن دأب عليه العاصي في بلورة رؤاه ونسج مواقفه المسبوكة بنورانية الخلفية، والدفع بها إلى دوائر تضيق أكثر فأكثر مع التبخّر الروحي المنساق و شعرية توبيخ العالم،اتكاء على زحزحة نظرة لم تعد قادرة على المواكبة، آثرت أن تمكث في ثوبها القشيب فيما يخص حياة النضال بالكلمة والقول الشعري الذي يتغيا قلب المنظومة المفاهيمية المحكومة بثالوث الأنوية والغيرية والكونية. لوحات تراوح ما بين صفحات الإشراق والذبول، الحضور والغياب، مسهمة في تلقين الخطاب الإنساني الراقي المنصف للذات في ضوء ما يتفشى من وإلى جوانيتها الرّازحة تحت نير تقاطعات هوياتية اغترابية، تمنح للشعر هشاشة إضافية بل وتضعه فوق الحياة كدال على جنون إدمان الحرف بعدّه السّلاح الشرعي المتاح كضرب من تكريس لثقافة لملمة المفقود وتقمّص روح المشترك وتتحسّس ريح الخلاص،وترع حيز الحكاية المنسية وملء غاية مقدّسة يلون متاهاتها حضور فلسطين: [النوافذ ملّت لعبة التوقع ستكون الرحلة طويلة فلا داع للعجلة ستحصد حزنك حين يصرخ عصفور الوقت هناك تماماَ هناك خلف ستار الجنون جهة أقصى المتاهة تمور شرفات الانتظار تتدلى منها وجوه الراحلين]. وإذن … نحن إزاء كتابة جاذبة وراشقة بطقوسيات إعادة ترتيب الأوراق فيما يرتبط بإقامة مصالحة حقيقية تنطلق من الذات كي تشمل سائر ما حولها، على احتكاك مع أفلاك الشاعرية المدغدغة بصفاء المعجم ودفق الرؤى المشكّكة. نصوص ترفل في الاستعارة الكلية ،وتدبّج فسيفساء النعوت بتوحّد أغراضها،وانصهار بعدها الرّسالي في بوثقة استنطاقات مفاهيمية تعنى بالانتماء. توليفة كأنما تعزف على أوتار القلب، تعقد لها الذات بعضا من قران طوباوي هامس، تختمر عبره تجربة الاغتراب ومفردات الهوية، وفقا لسريان تيارات خطابية حماسية متصادية ودوائر اغتراف القصيدة رعشة العذرية من تلاوين استحواذ المكون البصري على باقي الميكانيزمات التعبيرية والدلالية الأخرى. احمد الشيخاوي/شاعر وناقد مغربي