بذرة من سنابل البداية: محمد السرغيني؛ هذا الاسم المحفور في دم القصيدة المغربية، الذبيح فوق اشتهاءاتها، يقرأ كف برقها ويصعد في اشتعالاتها، نبضه نبيذ يعانق كل الجهات. بأناملها يبصر، وفي فتوحاتها يجلس شيخا لكل مرابض الشعر. مداده عشب الذات التي يسبح فيها بجع الرؤى، وأرضه سنابل سرية تمد طلعتها بين هسهسات الروح. وفي معراجه تهتف كل الأسماء بتاريخه. قدمه موغلة في سريرة الجمال؛ حيث يغتسل الحلم بين جفون هذا الوجود، فأي بهاء هذا الذي تنشق عنه مرآة الأعماق لتؤكد اختلافه؟ قدم تطأ أرض الروح: 1 قارة شعرية تدعى محمد السرغيني : تحيك قصيدة شيخ الشعراء محمد السرغيني قميص استداراتها في جبة هذا الكون ،حيث تترنح اللغة بين سقوف المجاز. فأي لغة تلك التي أسست عوالمه وهي تقبض على جمر المستحيل؟ فَبِحِبْرِ كوني بنى تاريخه الشعري، كلماته أجنحة تحلق مصابيح في سماء الأبجدية، طيلسانها حكمة تنام فوق راحة خفية، فكيف سنصطاد بعض يمامه ،وبين أزقته تطل علينا خلجان فتنة المتخيل عنده؟ كان في بداياته رومانسيا تنصهر ذاته أمام جراحات الوطن الكبير، فسقى شجرة إبداعه من كل الثقافات التي أمدته بدفقة ضوئية للمشي فوق جمر الكلمات. فكان متعددا في واحد، حيث كتب في كل الأجناس ( القصة، المسرح، الرواية القصيرة، النقد الأدبي، النقد التشكيلي ..) ، ليتنفس شعره في الأخير من رئة التصوف، خالقا معجما خاصا به، ففي هذا المدار تتفتح صور وأفكار عميقة لا يمكن التقاطها بالعدسة المرئية. 2 سبحة شعرية فوق سجادة التجليات عُرفت القصائد الصوفية بالرمزية المعقدة، و الرمز كما يقول يونج:»وسيلة إدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بغيره، فهو أفضل طريقة ممكنة للتعبير عن شيء لا يوجد له أي معادل لفظي « . ولهذا كانت لغة العديد من المتصوفة تتستر وراء الإشارات، ولا تتدفق معانيهم بين خلجان الوضوح، إذ يعتبرون هذا الأمر حالة وجدانية تستدعي الكتمان، وليس أفضل من الإشارت الغامضة للحفاظ على تلك الصلة التي تربط العبد بخالقه. ففي الموقف الثامن والعشرين من مواقف النفري يقول: «وقال لي: كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة. وقال لي: العبارة ستر» مقدمة النفري يوسف سامي اليوسف ص:57. وكأن بحر اللغة العادية يعجز عن احتواء ماء الغيب بكل تجلياته.. يقول ابن الفارض: وأسماء ذاتي عن صفات جوانحي جوازاً لأسرار بها الروح سرت رموز كنوز عن معاني إشارة بمكنون ما تخفى السرائر حفت سأقف عند نص قصير للشاعر الكبير محمد السرغيني إرهاص: رغم السفر المغبر المنسي, حاورت الأسماء, قبل سقوط التأويل في مهواة الحرف اليانع والشفرة, والفكر التحليلي. يقول الشاعر محمد السرغيني معرفا التصوف بأنه «وجدان مهما اُخْتَلَفَتْ تعاريفه، وخصوصيةٌ تجعل منه فكرا ذوقيا حتى مع اختلاف اتجاهاته» المستشرقون والتصوف الإسلامي مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية مراكش 1993. في النص القصير «إرهاص»، يحمل الشاعر حقيبة السفر النفسية، ويطأ أرض الأشياء التي يخيط بإبرتها كل الجهات. فما المقصود بالسفر؟ يعتبر علم التصوف سفرا في العوالم الروحية، وبحثا عن مكنون الأسرار الإلهية، واستحضارا للمعارف الخفية. هل هي لحظة تجل عاشها الشاعر دفعت به لاختراق حجب النفس في سكرة تتحسس بأصبعها قرية تفتح شبابيكها على المطلق؟ 3 الوقوع في شرك القصيدة عندما تتكسر الذات على أعتاب الواقع، وترمي بها رياح القسر بين أمواج القلق الهادر، يرتوي الشاعر من هذا النبع الروحي حيث يتحرر من قضبانه؛ ويسمر في بلاط هذا الانعتاق، بحيث لا يسمع غير ناي الوجود. في تلك الفترة التي تدثر فيها بعوالمه الخفية غاص في اللامرئي ،هل هي هزة لا شعورية تبحث عن الحقيقة بفضل الإيحاء والإيماء ومعانقة الأسماء؟ محاولا صياغة وجوده الخاص من معجم شعري يعطي فيه الأولوية للتكثيف والانزياحات، والدفع بالقارىء نحو مغارة سرية يقف أمامها بسلطته اللغوية ،حيث المغايرة الشعرية تصطلي فوق جمرها. حاور الشاعر الأسماء قبل سقوط التأويل في مهواة الحرف اليانع والشفرة، والفكر التحليلي. هل هي فكرة مبيتة منه لاختراق أسلاك الجدل المثار بين الفلسفة والتصوف في نصه، فإذا كان هذا الأخير أي التصوف تجربة روحية يعتمد على الإشارات، فإن الفلسفة تعتمد على المنطق. لكن كلاهما يبحثان عن الحقيقة المطلقة وإن كان التصوف يتجاوز برهان العقل... لقد استطاع الشاعر أن يخلق وصالا بينه وبين الرؤية في وعائها السري، ممارسا سلطته في لمس المخبوء بين أدغال هذا الغموض. فإذا كان التأويل قد ظهر كمصطلح لفهم القرآن باعتبار أن له ظاهرا وباطنا، اختص التفسير بالمعنى الظاهر بينما اختص التأويل بمعناه الخفي، أي محاولة معرفة ما تنطوي عليه اللغة من أبعاد قد لا يستطيع إلا من أوتوا من العلم الشيء الكثير فهمه، فإن الشاعر قد تحاور مع الأسماء التي لا تتناهى وهي أسماء الله عز وجل، لأن كل ما هو موجود في الوجود، ما هو إلا مرآة تجل للخالق. يقول ابن عربي في فصوص الحكم صفحة 88 فص إسحاق: يا خالق الأشياء في نفسه أنت لما تخلقه جامع تخلق مالا ينتهي كونه فيك فأنت الضيق الواسع إذن فمن خلال الشعر يحاول الشاعر محمد السرغيني القبض على لحظات تتماهى فيه ذاته مع العالم المحسوس، من أجل قطف سنابل الحرف المشفر في وهج ثنائية لعبة الوضوح والغموض التي تأسرنا في هذا النص. الحرف اليانع = الواضح المهواة = ما بين كل جبلين أو صدع في كهوف الجبال = الرمز الشعري واغتراب اللغة الفكر التحليلي: تفكيك الظواهر المعقدة إلى قطع بغية فهم خصائص أجزائها، وعند جان جينه عزل الشيء عن سواه من أجل فهمه. هل يشير الشاعر هنا لمعرفة لدنية حاول معانقتها، وهل معنى السقوط في هذا النص يعني ولادة أخرى لا يعرف حقيقتها غيره ؟ أم هو انفتاح للقصيدة وخلق لرؤيا تحلق في سماء تجاوز كل المصطلحات. قطرة من سماء النهاية كان هذا اصطلاء بجحيم الحرف السرغيني، ففيه تسلقنا حائط الخشوع، حيث تتفتح أمامنا أشكال وأقواس ودوائر يغدو من خلالها ملكا لآفاق الشعر، فتدور حول قدميه كواكب تغمض جفونها ولا تملك غير الاستسلام للغاته.