عدت فى شهر غشت من العام الحالى إلى مسقط رأسى لأول مرة منذ أن تحدث الرئيس أوباما هناك فى أوائل شهر يوليوز بجامعة القاهرة. وحين كنت فى القاهرة ناقشت خطاب الرئيس مع دبلوماسى مصرى مخضرم لم يتردد فى استعمال كلمة «تاريخى» لوصف أثره. وقال صديقى إنه فى أنحاء كثيرة من العالم الإسلامى كان يُنظر إلى كلمات السيد أوباما على أنها انفصال خطير عن الماضى، حيث كانت صادرة عن رئيس أمريكى يحترم الدين الإسلامى والثقافة الإسلامية على نحو واضح، كما أنه متفائل بشأن العلاقات بين الدول الإسلامية والغرب. شعرت فى ذلك الوقت بأن هذه كانت تصريحات «دبلوماسية». إلا أننى وفى أثناء تلك الزيارة نفسها، تكوَّن لدىّ كذلك تذوق بالمعنى الحرفى إلى حد كبير كيف وصل الخطاب إلى الشارع العربى التقليدى، أو على الأقل الشارع القاهرى كانت أسواق المدينة مكدسة بأكوام البلح استعدادا لشهر رمضان المبارك، الذى يصوم المسلمون نهاره. وغالبا ما يكون الإفطار على البلح عند الغروب، وهناك أنواع مختلفة تسمى بأسماء الشخصيات المحبوبة وغير المحبوبة، بناء على نوعية الثمار التى يتوقف سعرها عليها. وهذا العام كان »بلح أوباما« فى أسواق القاهرة هو أفضل نوعية وكان سعره هو الأعلى. واقع الأمر أنه كان فى ذلك رد مبشر وحلو على مقترحات الرئيس فى مصر! إلا أننى عندما سألت صديقى الدبلوماسى عما يظن أنه ينبغى أن يحدث الآن، تحدث عن إحساس عام بأن الخطوة التالية تعود كذلك إلى السيد أوباما. ولابد أن أقول إننى وجدت أن موقف »انتظر وسترى« هذا لا يُرضى إلى حد كبير. ففى الداخل والخارج، هناك تحديات ضخمة على الرئيس أوباما مواجهتها. وباعتباره رئيسا للولايات المتحدة قد يكون فى وضع فريد لتحفيز التقدم على الجبهة العربية الإسرائيلية، ولكن فيما غير ذلك لا يمكن أن تأتى قوة دفع التغيير إلا من المسلمين أنفسهم. وهنا أعتقد أن مصر بحكمتها ينبغى عليها أن تسترشد بحقيقة أن الرئيس اختار ألا يتحدث أمام مسئولين حكوميين أو نخب مهنية، بل أمام جمهور من الشباب المتعلم، الذى سوف تشكل اختياراته ورغباته المستقبل وتضع نموذجا للجيل القادم. وكعالم تلقى تعليمه فى كل من مصر وأمريكا، يمكننى بشكل خاص تقدير دعوة الرئيس إلى شراكات جديدة فى التعليم والعلوم بين الدول الإسلامية والغرب، ذلك أن هذه المجالات على وجه الدقة لديها القدرة الأكبر على دفع المجتمع إلى الأمام. ليست هذه الفكرة غريبة بحال من الأحوال عن مصر أو الإسلام. فقد بلغت سن النضج فى مصر بعد ثورة 1952 بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، وهو وقت اتسم بقدر كبير من الاضطراب والإصلاح واسع النطاق. ولم تُكسِب القومية العربية ناصر أصدقاء كثيرين فى الغرب، وعليه ربما لا يدرك معظم الغربيين فى الوقت الراهن المدى، الذى شجع فيه نظام الرئيس عبد الناصر التعليم باعتباره المحرك الحيوى للتقدم. وكنت واحدا من شبان مصريين كثيرين جنوا الفوائد، حيث كنت محظوظا بما يكفى لتلقى تعليما ممتازا فى إحدى المدارس العامة، فى نظام كان يشجع النساء على دخول الجامعة مع الرجال، ومكَّن العديد من المسيحيين الأقباط من أن يكونوا مدرسين وأساتذة بارزين. كنا نسكن بجوار مسجد كبير، ولكن الدين أيام شبابى لم يكن يدعو إلى عدم التسامح مع الأديان الأخرى، كما أنه لم يحاول التدخل فى حريتنا الفكرية. لقد نشأت فى أسرة متدينة، ولكن عندما كنا نتقابل أنا وأصدقائى فى المسجد كان ذلك فى الغالب لمناقشة علم الجبر وغيره من الموضوعات العلمية، وكثير ما كنا نتسامر. وعندما سمعنا كلمة »جهاد« كانت تعنى الاجتهاد، بمعنى الكفاح من أجل التفوق على المستويين الشخصى والعلمى. وتلك هى البيئة التى دفعتنى إلى دخول جامعة الإسكندرية، للتفوق فى دراساتى العلمية هناك مع معلمين وأساتذة بارزين، ثم بعد ذلك للحصول على منحة للدراسات العليا فى جامعة بنسلفانيا ثم إلى الأستاذية بجامعة كالتك، حيث مازلت أعمل اليوم. لم تكن تجربتى فريدة، ولكن هى تقدم مثالا توضيحيّا لما يمكن أن يحققه الالتزام بالتعليم الذى لا تقيده أى تقاليد دينية جامدة. كما أنه يبرز نقطة أن التغيير، بأفضل معنى للكلمة، ممكن. وعندما يتحدث المتفائلون اليوم عن زرع روح التقدم والتنوير بين الدول الإسلامية العربية وغير العربية فلا نحتاج إلى أن نعود ألف عام إلى عصر قرطبة والأندلس الملحمى، عندما كان العالم الإسلامى بمثابة منارة للعلم والتسامح. فقط أن ننظر إلى الوراء إلى مصر فى طفولتى، عندما كانت بها أفضل الجامعات وكانت أغنى وسط ثقافى فى المنطقة، وأيضا مركز إشعاع للتعليم الدينى والعلمانى. واليوم نرى ديناميكية شبيهة، إلى جانب درجة أكبر من التحول الليبرالى الداخلى، تعمل بنجاح فى بلدان متنوعة من الناحية العرقية والجغرافية مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا وبعض دول الخليج. وتصب تلك الدول موارد ضخمة فى بناء بُناها التحتية التعليمية والمدنية وتعمل على نحو يقظ للتغلب على النمط الشائع بكون العالم الإسلامى غارقا بشكل ميئوس منه فى القمع والتطرف الدينى والصراع الطائفى. ولكن ما زال هناك ما يجب عمله مما يزيد على ذلك بكثير. الآن فى مصر، وجزء كبير من العالم الإسلامى، أكثر من ربع السكان تحت سن الثلاثين. ولا يمكن للحكومات الإسلامية أو الغرب تحمل أعباء التغاضى عن هذا المخزون الضخم من الموهبة والقدرة البشرية. وأكثر الطرق فاعلية للاستفادة منهما هى من خلال النظام التعليمى المتميز الذى يجب أن يتم إحياؤه، من صفوف المدرسة الابتدائية حتى الجامعة، أى الاستعداد للاستفادة من أفضل تقاليد التعلم الإسلامية والغربية. وبذلك لابد أن يكون هناك منظومة جديدة لبناء قاعدة العلم والتكنولوجيا، وفى موضع القلب من ذلك الاعتراف بأن التطلع إلى المستقبل واستيعاب الأفكار الجديدة لا يمثل ابتعادا عن الميراث الإسلامى الأصيل بل عودة إليه. فالاستثمار المستدام فى التعليم هو ما سوف يؤدى فى نهاية الأمر إلى رخاء اقتصادى أكبر، ونوعية من الحياة الأفضل، وإصلاح ديمقراطى حقيقى. ومن الضرورى أن يستعيد المسلمون ثقتهم ويحرروا عقولهم ويتقبلوا بهذه الروح عرض الرئيس الأمريكى الخاص بالتعاون فى إقامة »مراكز الامتياز« وغير ذلك من المبادرات فى التعليم والبحث العلمى. وينبغى أن تكون الريادة لمصر فى تقدم الإصلاح التعليمى والحكومى، والذى لدى الرئيس أوباما الآن الثقة الجماهيرية لإقراره بشكل حقيقى. ولو ترك المسلمون والعرب شؤونهم إلى نظرية «انتظر وسترى» فسوف يظل «بلح» أوباما الرمضانى، بالرغم من بدايته المبشرة، لا يزيد كثيرا عن كونه لقاء عابرا ذا احتمالات محدودة، وفى النهاية بدون دور فعال لعلاقة حقيقية دافعة للتقدم.