السياسة تقتضي وجود سياسيين سواء كانوا أفرادا أو أحزابا، والسياسة في بلادنا تميعت وتراجعت بشكل مهول في السنوات الأخيرة. ورغم الانتباه الذي حصل بعد انتخابات 2007 ورغم صيحات متعددة، هنا وهناك، لتأهيل الحقل السياسي منذ ذلك الاستحقاق الانتخابي، فإن مسلسل التردي السياسي والحزبي ظل في تزايد مقيت إلى حد العبث والتعفن، صاحبه استنكار من جماهير شعبنا ونفور. مخاطر جمة تنتظر وتتربص بالحقل السياسي منها من أتى ويأتي من نظرة الحاكمين الفعليين للبلاد للمزيد في التحكم والسيطرة على القرار السياسي ومنها أيضا من أتى ويأتي من بعض قيادات الأحزاب ذاتها لا سيما تلك الأحزاب التي كانت تمثل شريحة مجتمعية ما. وإن كانت ممارسة الحاكمين في هذا المجال لا تحتاج إلى برهان أو إلى المزيد من تسليط الأضواء، حري بكل متتبع للشأن السياسي عامة وللشأن الحزبي خاصة أن يقف وقفة تأمل إلى واقع أحزابنا اليوم وبعد أربع محطات انتخابية بعد مرور حوالي عقد من زمن ما اصطلح عليه بالعهد الجديد. لقد انصب الحديث إعلاميا، وعن حق، حول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من مستغرب ومنتقد وشامت إلى ما أصبح عليه وضع هذا الحزب في الثماني سنوات الأخيرة بعد فقدانه للكثير من مناضليه في القاعدة والكثير من أطره المتوسطة وأغلبية ساحقة من المتعاطفين عليه ومن الداعمين له خلال الاستحقاقات الانتخابية. ومع وجود فوارق عدة، فإن ما قيل عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ينطبق تماما على أحزاب أخرى نحددها في أغلبية الأحزاب التسعة الأخرى، قديمها وحديثها، التي جاءت «انتخابيا» في مقدمة الأحزاب التي رشحت أكبر عدد وفازت بأكثر المقاعد. ففي كل تلك الأحزاب غُيب البرنامج المجتمعي ولم يعد يحظى باهتمام قواعدها لا خلال مؤتمراتها ولا خلال حملاتها الانتخابية. السبب اليوم راجع أساسا لنوعية وفكر الروافد البشرية المشكلة لتلك الأحزاب، المتشابهة في كليتها: طموحا وغايات ووسائل عمل وبرامج انتخابية، حتى أضحت في أعين المواطن وكأنها من لون واحد. وغياب مشروع برنامج سياسي ومجتمعي أسس لهجرة كبيرة في صفوف تلك الأحزاب من عمال وحرفيين وتجار صغار وشباب ومثقفين، فئات شعرت بالإهمال والتهميش والإقصاء لدورها ولتطلعاتها، وبالتالي شكل المنتخبون والمنتخبون السابقون والمنتخبون المحتملون الجزء الأساس والمؤثر داخل هذه الأحزاب واحتلوا بذلك داخليا المواقع الأساسية في قياداتها سواء المحلية أو الوطنية، همهم الوحيد الوصول خارجيا إلى مواقع أخرى من خلال الاستحقاقات الانتخابية. ومع أن عمر العمل الحزبي قصير قياسا بعمر بلدنا، يمكن القول إن سنة 2002 شكلت انعطافا حاسما في العمل الحزبي، إذ أن حزء من هرم الدولة المتأثر بالولاياتالمتحدة، ولا عيب في ذلك، سعى لاستنساخ نموذج هذا البلد معتقدا أن لا حل غير ذلك لتأهيل الأحزاب وعبره تأهيل العمل السياسي في المغرب، ذلك أولا بمحاولة خلق إدارة مركزية مكونة من أطر سياسية يسارية وأخرى تقنوقراطية، إدارة موزعة في هذا الكم الهائل من المجالس وفي كافة الأصعدة والميادين، وثانيا بإقناع الأحزاب بإعطاء الدور الأكبر داخلها للمنتخبين. وقد تجندت حينها معاهد أمريكية متصلة بالحزبين الجمهوري والديمقراطي للدفع في هذا الاتجاه من خلال ربط اتصال دائم ومباشر مع هؤلاء المنتخبين، في البرلمان خصوصا، بما صاحب ذلك من دورات تكوينية وتحسيسية وتنظيم زيارات ميدانية للولايات المتحدة ... والهدف في هذا السعي المزدوج تطبيق البرنامج السياسي للحاكمين في المستقبل أنّا كان نوع الحكومة المشكلة وأنّا كانت تشكيلة العناصر الحزبية المؤلفة لها، وبالتالي جعلها حكومة فاقدة لأي سلطة تذكر، حكومة واجهة ليس إلا. النتيجة دخول مفهوم جديد على عمل الأحزاب وتوجهاتها وعلى شريحة القواعد البشرية المنتمية لها، أدى في نهاية المطاف إلى أن أحزابنا اليوم لا تمثل طبقة أو طبقات اجتماعية معينة وطموحاتها الآنية والمستقبلية بل أصبحت و بشكل متشابه تمثل شريحة معينة من المغاربة من المُنتخبين والمُنتخبين السابقين والمُنتخبين المحتملين، فتقهقر العمل السياسي الفعلي والفعال، ورويدا رويدا انتفت الإستراتجيات السياسية لدى الأحزاب فابتعدت الجماهير الطامحة في التغيير من صفوفها، وكان لزاما ابتعاد أوسع الفئات الشعبية عن مساندتها وعن إسنادها. ذلك ما عبرت عنه وبصراحة جماهير شعبنا في كل المحطات الانتخابية الرئيسية الأربع الأخيرة بدءا من 2002 وانتهاء ب 2009 . إن الإذعان في استنساخ تجارب أخرى دون الأخذ في الحسبان الفوارق العديدة بين مجتمعنا والمجتمعات الأخرى وإن الإمعان في الاعتماد فقط على دور المنتخبين داخل الأحزاب سيزيدان من عزلة تلك الأحزاب ومن تبعيتها وخنوعها وسيؤديان حتما إلى موتها في نهاية المطاف. في هذا الصدد لا بأس من أن نجري مقارنة ولو سريعة بين المُنتخب الأمريكي ودوره وبين المُنتخب في بلادنا ودوره. فالمنتخب الأمريكي هو الذي شيد دولة الولاياتالمتحدة وكتب دستورها الذي بالمناسبة لا يشير لا من قريب ولا من بعيد للأحزاب ودورها.