رحل عن دنيانا يوم الأربعاء الأخير ( 7 أكتوبر 2009 )، بشقته الأشبه بمتحف هائل للفوتوغرافيا، بمدينة نيويورك، المصور العالمي الشهير «إرفين بين» عن سن يناهز 92 سنة.. لقد أبصر هذا الفنان الكبير، النور يوم 6 يونيو 1917، بنيوجرزي، المجاورة لنيويورك، قبل أن يستقر بمانهاتن ابتداء من سنة 1938، دون أن يغادر مدينته المفضلة قط، حتى وفاته بها. لقد وفيا للمكان، مثلما يظل وفيا عاشقٌ لحبيب. وعكس ما يصنفه به الكثيرون، من أنه « فوتوغرافي موضة عالمي »، فإن الرجل كان فنانا، مجد الكائن البشري من خلال صور خالدة.. صور عبارة عن لوحات قائمة الذات، وأشبه بنصوص تحكي قصة الإنسان في الدرجة البلورية من إنسانيته.. مثلما نجح في أن ينجز بورتريهات خالدة لشخصيات عمومية، وأخرى غفلة، يجمع بينها جميعها الشرط الإنساني المحض. ومما يهمنا مغربيا، تلك الزيارة التي سبق له وأن قام بها إلى المغرب، حيث أنجز صورا عن المرأة المغربية، وعن فضاءات البيوت الداخلية وعن اللباس المغربي الأنثوي، سنة 1971، ونشرها في المجلة التي ظل يشتغل بها منذ سنة 1943، مجلة « فوغ » الشهيرة. درس « إرفين بين »، في بداية حياته الدراسية الجامعية بمدينة بنسلفانيا، فن الديزاين، واشتغل مدرسا بذات الجامعة في ما بعد، يلقن علم الطباعة، وفن الديزاين، بالجامعة الصناعية للفن، التابعة لجامعة الفنون بذات المدينة. وفي سنة 1938 عاد إلى مدينته الأم نيويورك، حيث اشتغل لحسابه الخاص، من خلال فتح مكتب تصوير احترافي، سرعان ما اقتنصت أعماله مجلة الموضة العالمية الشهيرة « فوغ »، التي سيصبح ابتداء من سنة 1943 مصورها الرسمي الأكبر. ومع حلول سنة 1951، كانت مؤسسة « إرفين بين » قد ولدت.. المؤسسة غير المعلنة رسميا، لكن الفارضة ذاتها على الجميع، بقوة إبداعية صاحبها. وأصبح كبار العالم يطلبون وده من أجل أن ينجز لهم صورا خاصة، لكن الرجل كان يتعفف من أن ينزل إلى مستوى « مصور مناسبات تحت الطلب ».. وربما لهذا السبب، اختار منذ بدايات عمله أن لا ينجز أي صورة مهما علا شأنها خارج استوديوه الخاص بنيويورك. ولم يسجل عليه قط أنه أنجز صورا في الفضاء العام الخارجي، أو حيث يريد أصحابها. بل إنه كان يحرص دوما أن يأتي العالم إليه، أي إلى بيته الفني الخاص، وحينها يشكل هو الفضاء كما أراده إبداعيا. أما الحالات الناذرة التي تنازل فيها عن صرامة اختياره الفني هذا ( وأنفته أيضا )، فهي حين اختار هو أن يأخد صورا بورتريهات لمبدعين ومفكرين عالميين كبار ( مثل ما حدث له مع المفكر الفرنسي والعالمي جون كوكتو.. أو مثل ما قام به في المغرب وفي عدد من قبائل أدغال إفريقيا السوداء ).. حينها يكون المبدع فرحا بموضوعه، ويشد هو الرحال إليه، من أجل الفرح باقتناص لحظات إبداع خالدة. « إرفين بين »، الذي حاز العديد من الجوائز الدولية، لعل أهمها جائزة « هزل بليد » سنة 1985، ثم الجائزة الثقافية الكبرى للجمعية الألمانية للتصوير سنة 1987، صدرت حول أعماله العديد من الدراسات الأكاديمية المتخصصة، مثلما أنجزت حولها العديد من أطروحات دكتوراه الدولة عبر جامعات العالم، من جامعة طوكيو حتى جامعة ساوبالو البرازيلية.. وابتداء من سنة 1984، وقد بدأ العمر يتقدم به، والشيخوخة تطل عليه مثلما تطل شمس الأصيل على سعف النخل، أصبح مقلا في تحركاته، وأكثر انزواء على ذاته، ليس بالمعنى الإنطوائي المرضي، بل بالمعنى الذي يكون للذات التي تتشرب بهدوء تجربة عمر طويل، من حظه أنه عمر غني بالتجربة.. فبدأ يعيد ترتيب ذاكرته الفنية الخاصة، بما يشبه إعداد ذاكرته للأبد، لأنه كان يدرك أن ساعة غياب الشمس ( شمس حياته قد بدأت تطل ).. وكانت النتيجة، أنه بعد رحيله اليوم عن سن 92 سنة، ترك متحفا قائم الذات يحكي قصة رجل، مصور فوتوغرافي، كان فنانا..