بفعل حبها ل «عزيزها كارل»، قبلت الأرستقراطية جيني فون ويستفالين كل شيء من خطيبها ثم زوجها صاحب «الرأسمال» و»البيان الشيوعي»: الانتحار الطبقي، الفقر، عدم الاستقرار، انعدام الطمأنينة، بل والخيانة الزوجية أيضا. في هذه السلسلة، لا نتوقف عند ماركس، المنظر وناقد النظام الرأسمالي الذي عادت مؤلفاته مؤخرا إلى واجهة المكتبات بفعل الأزمة العالمية، بل نسائل حياته الخاصة رفقة زوجته المنحدرة من أصول نبيلة، لنميط بعض اللثام عن الرجل، عاشقا وزوجا وأبا وإنسانا لم يجد أحيانا ما يسد به رمق أسرته الصغيرة... صلب هذه السلسلة انبثق من العدد الخاص بماركس، فكره وإرثه الأيديولوجي، الذي نشرته مجلة «لوبوان» الفرنسية (يونيو-يوليوز 2009)، وخاصة مقال صوفي بوجاس حول «جيني، الحب المطلق»، وتم إغناء معطياتها بدراسات ومقالات صحفية أخرى. في العام 1856، ستغضب جيني من زوجها وتغادر بيت الزوجية لتمكث فترة من الزمن مع والدته في ألمانيا. كارل ماكس سيفتقدها كما تفتقد القوافل التائهة في الصحراء واحات العشب والماء، ويرسل لها 12 رسالة، لا أقل ولا أكثر. رسالته الأولى المكتوبة في 2 يونيو 1856، ستكشف بعض حميمية الزوجين، وهو ما سيتردد في باقي الرسائل: «جيني حبيبتي، لم أعد أستطيع الفراق أكثر، لم أعد أستطيع نسيان تقبيل أقدامك، لم أعد أستطيع أن أنسى الرافسات التي توجهينها لي أثناء تقبيلي لقدميك». ومما ورد في رسالة ثانية مؤرخة في 21 يونيو من نفس السنة: «يا حبيبة قلبي، « ها أنذا أكتب لك ثانية لأنني وحيد ولأنه يربكني أن أحاورك دون أن تعرفي ذلك، أو تسمعي كلامي أو تستطيعي الرد عليّ. «ورغم رداءة صورتك الفوتوغرافية، فإنها تقدم لي خدمة رؤيتك، مما يجعلني أفهم لماذا تجد الدمى الذميمة المشخصة لأم المسيح وللعذراوات السوداء كل هذا الحشد من المعجبين الدؤوبين. لم تنل أية واحدة من هذه الصور ما نالته صورتك من القبل والنظرات والعشق، رغم أنها صورة لا تعكس إطلاقا حلاوة وجهك العزيز، الحنون والمحبوب. لكن عيناي المتعبتين بالضوء والدخان لا زالتا قادرتين على الرسم، ليس في الخيال فحسب، بل وهما يقظتان. « أمتلكك مشعة أمامي، ألمسك وأقبلك من الرأس حتى القدمين. أركع أمامك وأنتحب: « سيدتي، أحبك (باللغة الإنجليزية في الرسالة المكتوبة بالألمانية)... أحبك في الواقع مثلما لم يسبق لمغربي البندقية (الإشارة هنا لعطيل شكسبير) أن أحب... «كلما ابتعدت عني، بان لي عشقي لك في هيأته الحقيقية: عملاق يمتص كل طاقة روحي، كل ماهية قلبي. أُحسني رجلا من جديد لأنني أشعر بهوى فائق. ستبتسمين يا قلبي الحلو، وتتساءلين من أين استلهمت فجأة كل هذه الفصاحة؟ ولكنني، لو استطعت ضم قلبك الناصع الحلو إلى قلبي، لكنت صمت وتوقفت عن التفوه بالكلمات، ولما كنت عاجزا عن تقبيلك... في الواقع، توجد العديد من بنات الهوى في الدنيا وبعضهن جميلات، لكن أين لي أن ألقى وجها كل قسماته، كل طياته تبعث في دواخلي احلى وأروع ذكريات حياتي؟ حتى أوجاعي التي بلا حد وخساراتي التي بلا تعويض أقرؤها في محياك الحلو، مثلما أُبعد الألم عني بالقبل عندما أقبل وجهك الحلو. « وداعا يا قلبي، ألف قبلة لك وللأطفال». أما في 22 يوليوز ، فسيعترف ماركس كاتبا: «تقبيل قدميك عادة اكتسبتها أنا مع الزمن، ورفسك لي عادة اكتسبتها أنت». سنوات المعاناة ستنتهي بإرهاق جيني ماركس. هكذا، ستصاب بمرض الجدري في 1860 وتتعرض للتشوه، مما سيجعلها تشكو من انهيار عصبي مزمن، لتعاني بعدها من سرطان الكبد الذي سيؤدي إلى وفاتها في دجنبر 1881. بعد انتقال جيني إلى جوار ربها، أصبح ماركس مثل الضائع الشارد، يتنقل، بدون بوصلة، من فضاء إلى آخر بلا هدف، وذلك لدرجة جعلت إنجلز يقول عنه: موت جيني يؤذن بموت كارل هو الآخر. بمشهد الضياع هذا افتتحت الكاتبة والصحفية الفرنسية فرانسواز جيرو (1916 _ 2003) كتابها الصادر سنة 1993 تحت عنوان «جيني ماركس أو زوجة الشيطان». ها هو ذا يتجول، شهورا بعد غياب الزوجة، في مونتي كارلو، مريضاً، متعباً ومهدود الجسد، رغم أنه لم يتجاوز بعد الستة والستين عاما. كان صاحب «الرأسمال» مريضاً، لكنه أخفى فحوصاته الطبية عن بناته. يعلق أحد الصحفيين على المشهد متسائلا: « هل كان بإمكان ماركس، الذي أحب زوجته لمدة سبع سنوات قبل أن يتزوجها، ثم عاش معها ثمانية وثلاثين عاماً متواصلة، أن يعيش بعدها، أن ينساها؟». وبالفعل، فقد التحق بها في صمت في مقبرة هاي غيت بلندن عام 1883، وووري جثمانه الثرى بعد جنازة لم يحضرها سوى عشرين شخصاً. في 1868، كان كارل ماركس قد أسر للثوري الفرنسي الشاب بول لافارغ (1842 _ 1911)، الذي تقدم لطلب يد ابنته لورا التي سيتزوجها في 2 أبريل من نفس سنة طلب يدها، قائلا: «لو قدر لي أن أعيش حياتي من جديد لما تزوجت»، مضيفا: «سأفعل كل ما في وسعي لحماية ابنتي من صخور المآسي التي تحطمت عليها حياة أمها».