بفعل حبها ل «عزيزها كارل»، قبلت الأرستقراطية جيني فون ويستفالين كل شيء من خطيبها ثم زوجها صاحب «الرأسمال» و»البيان الشيوعي»: الانتحار الطبقي، الفقر، عدم الاستقرار، انعدام الطمأنينة، بل والخيانة الزوجية أيضا. في هذه السلسلة، لا نتوقف عند ماركس، المنظر وناقد النظام الرأسمالي الذي عادت مؤلفاته مؤخرا إلى واجهة المكتبات بفعل الأزمة العالمية، بل نسائل حياته الخاصة رفقة زوجته المنحدرة من أصول نبيلة، لنميط بعض اللثام عن الرجل، عاشقا وزوجا وأبا وإنسانا لم يجد أحيانا ما يسد به رمق أسرته الصغيرة... صلب هذه السلسلة انبثق من العدد الخاص بماركس، فكره وإرثه الأيديولوجي، الذي نشرته مجلة «لوبوان» الفرنسية (يونيو-يوليوز 2009)، وخاصة مقال صوفي بوجاس حول «جيني، الحب المطلق»، وتم إغناء معطياتها بدراسات ومقالات صحفية أخرى. سنوات طويلة بعد زواجه من جيني، سيستخف كارل ماركس الكهل بغياب النفس الشعري من قصائد شبابه التي احتفى ضمنها بعشق خطيبته، رغم اعتباره لها «معبرة عن مشاعره الدافئة والمخلصة». وحسب شهادة ابنته لورا لافارغ, فالوالد كان ينظر ب «بازدراءٍ كبير» لشعره السابق، بل إن الوالدين معا، كارل وجيني، «كانا يضحكان ملء شدقيهما عندما تذكر قصائد ماركس الأولى أمامهما. من جهتها، لم تبخل الخطيبة على فارس أحلامها البعيد برسائل البوح بالعشق والهيام. في 1840، ستكتب له في إحداها: «هكذا حبيبي، ومنذ رسالتك الأخيرة، انتابني شعور بالخوف من أن أكون سبب شجارك مع أحد، ثم تحديه بالسلاح. ظلت صورتك تحضرني، ليلا ونهارا، وأنت جريح ، ملطخ بالدماء ومريض . ولأصدقك القول، لم أشعر بالتعاسة جراء هذه الأفكار، إذ تخيلت أن ذراعك اليمنى بترت، مما ولد لدي، كارل، إحساسا بالنشوة والسعادة. ستفهمني بكل تأكيد حبيبي، فلو حدث هذا بالفعل، فسيصبح لا غنى لك عن وجودي إلى جانبك، ستحتفظ بي إلى جانبك وتحبني. فكرت أيضا أن حصول هذا سيجعلني أتكلف بكتابة كل أفكارك العزيزة والرائعة ,ان أكون مفيدة حقا لك». أخيرا، وبعد انتظار سبع سنوات، سينتهي مطاف الخطوبة الأزلية في 19 يونيو 1843، يوم ستضع جيني فستانا أخضر منسجما مع لون عينيها للزواج مع كارل في باد كريزناخ، المدينة الواقعة في منطقة الراين. والدة العروس وأخوها إدغار سيحضران حفل الزفاف، لكن أخاها غير الشقيق فيردنان سيتغيب عنه، هو الذي سيصبح وزيرا لداخلية بروسيا لاحقا، والذي بذل كل ما في وسعه كي لا ترتبط أخته بيهودي غير ديانته ولا يملك قرشا، لكنه سيفشل في مسعاه رغم حلوله محل أبيه على رأس الأسرة بعد وفاة هذا الأخير شهورا قبل عقد القران. شهر العسل الذي قضته جيني في سويسرا قصد التمتع بمشهد شلالات نهر الراين، سيجعلها تقف على نمط حياتها الزوجية المستقبلية! فبالنسبة لكارل الحديث العهد بالقفص الذهبي، لا تعني الراحة شيئا حتى وهو يقضي شهر العسل. هكذا، اصطحب معه في حقائبه ما لا يقل عن خمسة وأربعين كتابا، كما أدمن طوال ذلك الصيف السويسري على الكتابة:»حول المسألة اليهودية» وأولى صفحات « نقد فلسفة الحقوق عند هيغل». لكن، من أين للزوجين الجديدين بالمال لتغطية مصاريف شهر العسل؟ لقد أهدتهما السيدة فون ويستفالين مبلغا محترما بمناسبة زفافهما، غير أنهما سيبددانه إلى آخر قطعة نقدية من عملة ثالر النمساوية عبر توزيعه بطيش على الأصدقاء المحتاجين الذين سيصادفانهم أثناء الرحلة. مضحيان بكل شيء في سبيل السياسة، أمضى آل ماركس أيامهم في ضيق وعوز. حالت مجازفات الحياة الثورية دون حصول ماركس على عمل قار، أما موارده من الاشتغال في حقل الصحافة فكانت لا تسمن ولا تغني من جوع، ولذا لن يتغلب الزوجان على مستلزمات العيش إلا باللجوء إلى الهبات، مساعدات إنجلز وبيع ما حصلت عليه جيني في مهرها من ألبسة رفيعة وأوان فضية حاملة لشعار عائلتها.