حاول مؤلفا كتاب «السيرة: نبي الإسلام بلسان صحابته»، بهجت النادي وعادل رفعت- اللذين اختارا اسما مستعارا للتوقيع المشترك (محمود حسين)- أن يقدما «صورة واقعية وكثيفة وشاملة» عن سيرة النبي، من خلال الالتزام الصارم بمناهج البحث العلمي الحديث، aبعيدا عن معياري «رواية الثقاة» و«القرب الزمني» اللذين-في رأيهما- يتصلان بطبيعة ميولات المؤرخين الفكرية، إذ يجنح البعض إلى «القراءة السياسية»، فيما يفضل بعضهم «الفعل الخارق» (المعجزة) أو «البعد الروحي» للحدث. وهذا ما أكداه بالفعل في مقدمة «هذا الكتاب». فهما يقترحان وضع الحدث في سياقه الشامل، أي عدم إبعاد أي عنصر له طابع تفسيري مهم، أو أي تفصيل غني بالمعاني التي تعضدها «القراءات» (التفاسير) المختلفة والمتاحة. بعد كثرة التجوال، خرج عروة بن الورد وأصحابه حتى أتى [ماوان] فنزل أصحابه وكنف عليهم كنيفاً من الشجر، ثم مضى يبتغي لهم شيئاً وقد جهدوا، فإذا هو بامرأة قد خلا من سنها وشيخ كبير كالحقاء الملقى، فكمن في كسر بيت منها، وقد أجدب الناس وهلكت الماشية، فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشوية والبيت خال فأكلها، وقد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئاً فأشبعته وقوي، فقال: -لا أبالي من لقيت بعد هذا. فإنه لكذلك إذن هو عند المساء بإبل قد ملأت الأفق وإذا هي تلتفت فرقاً، فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها، فلما أتت المناخ بركت، ومكث الراعي قليلاً ثم أتى ناقة» منها فمرى أخلاقها، ثم وضع العلبة على ركبتيه وحلب حتى ملأها، ثم أتى الشيخ فسقاه، ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك وسقى العجوز، ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو، ثم التفع بثوب واضطجع ناحيةٍ، فقال الشيخ للمرأة وأعجبه ذلك: - كيف ترين ابني؟ فقالت: -ليس بابنك! قال: -فابن من ويلك؟ قالت: - ابن عروة بن الورد. قال: - ومن أين؟ قالت: - أتذكر يوم مر بنا يريد سوق ذي المجاز فقلت: - هذا عروة بن الورد، ووصفته لي بجلد فإني استطرفته. فسكت. حتى إذا نوم الشيخ وزوجته وثب عروة وصاح بالإبل فاقتطع منها نحواً من النصف ومضى ورجا ألا يتبعه الغلام- وهو غلام حين بدا شاربه-فاتبعه. فاتخذا وعالجه، قال: فضرب به الأرض فيقع قائماً، فتخوفه على نفسه، ثم واثبه فضرب به وبادره، فقال: -إني عروة بن الورد. وهو يريد أن يعجزه عن نفسه. فارتدع، ثم قال: - مالك ويلك! لست ينهاك عن شيء. قال: -الذي بقي من عمر الشيخ قليل، وأنا مقيم معه مابقي، فإن له حقاً وذماماً، فإذا هلك فما أسرعني إليك، وخذ من هذا الإبل بعيراً. قلت: - لا يكفيني، إن معي أصحابي قد خلفتهم. قال: - فثانياً. قلت: - لا. قال: -فثالثاً، والله لازدتك على ذلك. فأخذها ومضى إلى أصحابه، ثم إن الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ.