حاول مؤلفا كتاب «السيرة: نبي الإسلام بلسان صحابته»، بهجت النادي وعادل رفعت- اللذين اختارا اسما مستعارا للتوقيع المشترك (محمود حسين)- أن يقدما «صورة واقعية وكثيفة وشاملة» عن سيرة النبي، من خلال الالتزام الصارم بمناهج البحث العلمي الحديث، بعيدا عن معياري «رواية الثقاة» و«القرب الزمني» اللذين-في رأيهما- يتصلان بطبيعة ميولات المؤرخين الفكرية، إذ يجنح البعض إلى «القراءة السياسية»، فيما يفضل بعضهم «الفعل الخارق» (المعجزة) أو «البعد الروحي» للحدث. وهذا ما أكداه بالفعل في مقدمة «هذا الكتاب». فهما يقترحان وضع الحدث في سياقه الشامل، أي عدم إبعاد أي عنصر له طابع تفسيري مهم، أو أي تفصيل غني بالمعاني التي تعضدها «القراءات» (التفاسير) المختلفة والمتاحة. لم يكن كل العرب سعداء في حضن قبائلهم. فبعضهم يضيق ذرعا بنمط العيش القاسي برتابته ومخاوفه. والبعض الآخر، كان حاقدا على قومه لعجزهم عن حمايته أمام طالبي دمه. وكان هؤلاء وهؤلاء يديرون ظهرهم للقبيلة ويلجؤون إلى شساعة الصحراء، إما فرادى أو ليكونوا في جماعة من أمثالهم، فتجدهم يقطعون الطريق و يغيرون على القوافل يسلبونها، بل إن بعضهم كان يغير على القبائل التي يعتبرونها من الأعداء أو الغرماء، لأسباب لم يتردد هؤلاء أحيانا في الإفصاح عنها، أو عدم البوح بها حيث يحملون معهم سرها إلى القبر. وكان يطلق على هؤلاء اسم الصعاليك أو الذئاب، ومن مشاهيرهم عروة بن الورد. ويروى أن عروة قد سبى امرأة من بني كنانة تسمى سلمى، فهام بها هياما شديدا فولدت ولدا كثيرا. ورغم جمالها الأخاذ، نبذها الناس، لأنها لم تتزوج برضا قومها. وكان أبناؤها الملقبون بأبناء السبية مثلها منبوذين. فذهبت ذات يوم إلى زوجها، وقالت له: - ألا ترى كيف يُعامل أولادك؟ فقال له: - ماذا دهاك؟ - أرى أن تحج بي إلى قومي، فيزوجونني إياك. فرضي عروة أن يردها إلى أهلها. وحسب مارواه البعض، فإن قوم سلمى ردوها عليه كزوجة، بينما يذهب البعض الآخر أن قومها رفضوا رفضا قاطعا أن يردوها عليه، فزوجوها لرجل من بني نفيس، وهي قبيلة يهودية كانت بيثرب. ويروى أن سلمى لما رأت عروة جالسا بين جماعة من العرب، اتجهت نحوه وقالت له أمام أصحابه: -إني لا أعلم امرأة ألقت سترها على خير منك، أغنى غناء وأقل فحشا وأحمى لحقيقة، ولقد ولدت منك ما علمت، فاستوص ببنيك خيراً. فلما ذاع ثناؤها عليه، جاءها زوجها الثاني، وقال: - يا سلمى، أثني علي كما أثنيت على عروة. فقالت له: - لا تكلفني ذلك، فإني إن قلت الحق غضبت، ولا واللات والعزى لا أكذب. فقال: - عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين. ثم خرج فجلس في نادي القوم، وأقبلت سلمى فرماها القوم فقالت لهم: - عمتم صباحا، لقد أصر هذا الرجل أن أثني عليه أمامكم بما علمت. ثم قالت لزوجها: - والله إن شملتك لإلتحاف، وإن شربك لاستفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجانب. ثم انصرفت. فلامه قومه وقالوا: -ما كان أغناك عن هذا القول منها.