بدءا، أنا من محبي الموسيقى.. ومن محبي الدلاح أيضا !!.. قد نختلف حول الموسيقى، فالناس أذواق، وهم في ما يعشقون مذاهب .. وقد يختلفون أيضا حول الدلاح.. فالأنواع عديدة..دكالية وغرباوية.. «البيجو»، الذي تقترب خضرته من السواد، وصاحب الخضرة الخفيفة ، والخضرة المزروعة بالمتوازيات المسننة... كل ذلك من النعم ..ولكن كيف حدث ما حدث، وتحول فضاء هذه المدينة - مدينة القنيطرة- المنكوبة إلى موسيقى دلاحية، أو دلاح موسيقي؟. هذا ما تفتقت عنه عبقرية منظمي مهرجان القنيطرة الأخير (يوليوز2009 ). والغريب أن هذا المهرجان العجيب يتميز بكونه مهرجانا عالميا في شقه الدلاحي، ومهرجانا وطنيا في شقه الموسيقى. وما بينهما ضاعت المدينة في خضم تصريحات مائعة وعائمة، حول الدلاح والتنمية من جهة ، وحول «الكشاكيل» الموسيقية في علاقتها بالتنمية أيضا حسب مفهوم المنظمين للتنمية.. وللتذكير فالمهرجان الحالي ليس وليد اللحظة. فهو نتاج لمراحل عديدة من التدبير العشوائي للمدينة ومحيطها في مراحل سابقة. وظلت هذه المدينة - وهي إلى عهد قريب كانت عاصمة الغرب- بعيدة عن تصورات التمدين سواء على المستوى المادي أو الرمزي. والأمثلة كثيرة.. فهي المدينة المفتقدة للمكتبة البلدية بمواصفاتها العلمية، تجهيزا وأرشيفا ومحتوى وفضاء ملائما للقراءة. وهي المدينة التي ينعدم فيها المركب الثقافي إلى اليوم. وهي المدينة التي تفتقد إلى القاعة السينمائية، بعد إقفال القاعات الست. وهي الخالية من الحديقة، باستثناء ما تركه «ليوطي» والمزارات الملائمة للأسر والعائلات. وهي المدينة التي ما زالت مدرجات جامعتها تحمل الأرقام الباردة عوض أن تحمل، مثل كل الجامعات المغربية، أسماءها الرمزية مثل : بوشتى الجامعي ومحمد زفزاف ومبارك الدريبي والمعطي الحيمر، دون إحصاء أسماء عديدة مرت من هذا المكان. وهي المدينة التي تتساقط أشجارها يوما عن يوم، وتشوه معالمها، أو ماتبقى من معالمها، بالتجريف اليومي لفضائها الذي حقن بالإسمنت والحديد، فتمخض عن مستويات من التشويه في البناء والسلوك اليومي والتوسع السرطاني، في الجهات الأربع، الذى تكدس بساكنة تعيش شرطها البيولوجي عوض الإنساني الذي كان من الضروري أن يلتفت إليه أصحاب المهرجان الذين - وهذا من مكوناته التركيبية - حافظو ا على الهرج والمرج، واستبعدوا المفهوم الإحتفالي لأي مهرجان، أي الإحتفال بما يستحق الإحتفال سواء تعلق الأمر بالبلاد أو العباد. ألم يكن من الأجدر بأصحاب المهرجان الإحتفال بمرور قرن من الزمان على تأسيس هذه المدينة الشهيدة. الإحتفال بمرور أربعة قرون على بناء قصبة المهدية بعد - وهذه جريمة دولية- أن تحول فضاؤها إلى أبنية عشوائية اختلط فيها الحابل بالنابل. لنقترح مقترحا أخر: الإحتفال ب« المهدية» أو «تيماتيريا» كما أطلق عليها « الأميرال» حانون القرطاجي في القرن الخامس قبل الميلاد.. أولنحتفل برموز هذه المدينة في مجالات عديدةإسوة بمدن أخرى لم تتردد في تكريم « ابن الدرب » أو تكريم «فاعل خير» أحسنة للبلاد والعباد... ألم يكن من الجدوى الإحتفال بما كان وبما يجب أن يكون؟اليس من أهداف المهرجانات لفت الأنظار لخصوصية المكان سلبا وإيجابا؟ ألم يكن ملائما طيلةأيام المهرجان، الجمع بين الإستهلاك والإنتاج، استهلاك النعم ، وهذا شئ مشروع، وعقد جلسات وحوارات حول فضاء مشترك نستهلكه جميعا بطريقة أو اخر ضاقت هذه الأرض بما رحبت. وتحول هذا المكان الذي بنته سواعد عبرت النهر، وجزت الصخر، وطوعت الحديد.. هل تحول كل ذلك إلى مجرد دلاحة أحيانا، ونغمة نشازأحيانا أخرى، حتى طيور البحيرة - بحيرة سيدي بوغابة - غادرت المكان بعد أن دمر أعشاشها هدير الشاحنات المقرصنة لتراب الشاطئ، مفضلة اختراق طريق البحيرة، وهو من أجمل الطرق عالميا، عوض الطريق الرئيسي. والطيور شاهدة على مايحدث في هذا الطريق ( طريق البحيرة) من جرائم وأفعال، ليل نهار، يندى لها الجبين. أتذكر، الآن، إشهارا فاشلا، غطى الشوارع منذ فترة وجيزة. الإشهار رأس بشرية مشطورة إلى شطرين، وهي في الأصل دلاحة حمراء انتقلت من رأس الراكب إلى الإسفلت .ليس غريبا ، إذن، أن يتزامن الدلاح مع الموسيقى في هذا المهرجا ن بعد أن سقطت الخوذة عن رأس أصبحت عرضة للحوادث ولضربات الشمس فحدث ما حدث.. فلا الخوذة نفعت، ولا الدلاحة شفعت، ولا الموسيقى أطربت، ومر المهرجان وكأنه لم يكن !!..