بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود صاحب الجلالة الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    مجلس الأمن: بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا        مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ضرورات الوحدة الاندماجية العاجلة

ما سيأتي في هذه المقالة، لا يحاجج ولا يناكف ولا يناقض معظم ما كتبه الأخ الساسي في مقالته «مبادرة جديدة»، حتى ولو جاء في شكل رد مباشر عليه، إنما القصد، استكمال الطريق التي سار عليها ثم توقف في منتصفها، تاركا أبوابها لاهي مغلقة ولاهي مفتوحة، بهذه الروح الايجابية ينبغي النظر لهذه المقالة.
ولأن موضوع وحدة اليسار يحتاج انشاؤه لكل الشركاء، لذلك أتمنى أن يتسع النقاش ليشمل مساهمات أخرى من مناضلي كل اليسار، فذاك أضعف الإيمان.
أحيانا، تبدو بعض الأفكار وكأنها أحلام طوباوية بالرغم مما تحتويه من فرص كامنة تجعلها قابلة للانجاز. لكن واقع الحال هو دوما، هكذا في كل المنعطفات التاريخية الكبرى. ما من طفرة تاريخية إلا وكانت في البدء فكرة خلاصية وكأنها حلم طوباوي.
من هذه الافكار، ومن هذه الاحلام المجدية والفاعلة، ما نطالب به اليوم من ضرورات عقلانية وعملية لاندماج اليسار المغربي في حزب اشتراكي واحد وموحد.
وفي هذا الصدد، قرأت مؤخرا في جريدة المساء مقالة كثيفة ومتميزة للأخ محمد الساسي، وضع لها عنوانا هادئا «مبادرة جديدة» والحق، أني بعد قراءة المقالة مرات ومرات وبعد أن أخذتني بشوق ولهفة مقدماتها الثاقبة واشكاليتها الواقعية، فوجئت باستنتاج أخير لا يتناسب مع ما سبق في العرض من مقدمات تشريحية وتقييمية، والتي ما كانت لتفضي في النهاية إلى الخلاصة التالية: الوحدة الادماجية لكل فصائل اليسار في حزب اشتراكي واحد وموحد، أضحت ضرورة آنية لا تقبل التأجيل، وهي ضرورة خلاصية مطلقة لفصائل اليسار الصغرى خصوصا. وعليه، فالمبادرة في هذا الشأن واجبة وعلى عاتق الجميع، وإن كان الاتحاد الاشتراكي له الافضلية «التاريخية» في القيام بها. ولكي يدرك القارئ جيدا دلالات ما أشرت إليه أوجز له بعض الافكار الرئيسية التي في المقدمات والخلاصة:
المقدمة الأولى: يقرأ الأخ الساسي توزيع القوى في الانتخابات الاخيرة ويسجل بأننا: «لربما بحاجة إلى 8 أحزاب على أبعد تقدير، لأنها حصدت لوحدها قرابة 90% من المقاعد، وتركت لبقية الاحزاب ما يشبه الفتات، وبمعنى آخر، فإن حوالي 22 حزبا ما كان لها، أن تكون، وتعتبر زائدة .وعليها أن تعترف بحقيقة وضعها وتبحث لها عن مخرج قبل حلول زمن الانقراض التام، حيث تتحول إلى مجرد ذكرى لماض سياسي».
المقدمة الوسطى: بعد تسجيله لنظام العتبة القاسي (6%) في إقصاء الأحزاب الصغيرة، وفي المزيد من اضعافها ووضعها على الهامش (وهو في نظري عامل نسبي جدا وقليل الاهمية) يتوصل الاخ الساسي إلى الاستنتاج الجوهري «من الصعب أن ننتظر، أن تتدارك «الاحزاب الصغيرة» ضعفها وتنجح في الانتقال من أحزاب صغيرة إلى أحزاب متوسطة القوة أو قوية، فلربما تكون قد مرت أكثر الفرص التي كانت تسمح بتوقع مثل هذا الاحتمال. والدينامية الانتخابية كما تجري في المغرب اليوم تهمش السياسة في ذاتها والحزب في ذاته. فبالأحرى الأحزاب الصغيرة مهما تعددت ألوانها، ولا تظهر هناك مؤشرات يمكنها أن تغير جدريا، في المدى المنظور، مسار الدينامية الانتخابية وتجعلها تعد بمعطيات أخرى».
الاستنتاج النهائي: بعد تلك المقدمات الموضوعية والصائبة، وبعد تحليله لطبيعة القوى المشكلة للخريطة السياسية من حيث ما يجمع بين بعض فرقائها وما يشكل هوية رئيسة لكل مجموعة منها، يصل الاخ الساسي إلى الاستنتاج النهائي التالي «الساحة اليسارية والديمقراطية المغربية اليوم، ربما في حاجة إلى صنع حدث سياسي ما وإلى إبراز شيء جديد، هناك ربما ضرورة إلى انبثاق إطار جديد يستوعب القديم ويطوره ويحقق تجميعا للقوى على قاعدة برنامج مشترك ومنهجية في العمل متحدة المنطلقات والمرجع، ويظل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بحكم تاريخه، في موقع المطوق بواجب إطلاق المبادرة الجديدة. لكن بحكم حاضره، تظل أهليته لقيادة مسار المبادرة متوقفة على درجة تخلصه على الأقل من ثلاث عقد. وهي بايجاز: أولها عقده الاسم، أي مدى استعداد الاتحاد الاشتراكي لقبول التخلي عن اسمه لاسم آخر يتفق عليه، وثانيها عقدة التناوب، أي مدى استعداد الاتحاد الاشتراكي للقيام بنقد ذاتي جذري لنهجه السياسي بكامله، منذ أن قبل بالتناوب التوافقي وبالدستور الذي قام عليه، وثالثها عقدة الوسائل، أي مدى استعداد الاتحاد للتخلي عن استعارة وسائل اليمين من استيراد انتخابوي للأعيان والتحالفات اللامبدئية وأبرزها وأخطرها ما اعتبره تحالفا في الرباط مع حزب العدالة والتنمية. وبعبارته الاخيرة: إن قيام الاتحاد بالمبادرة الوحدوية المنتظرة منه، تتطلب منه «القيام بثورة أو انتفاضة على نفسه!»
كان هذا أهم ما قاله الاخ الساسي. ومن الجلي فيه أن الاستنتاج النهائي الذي توصل إليه لا يتطابق كل التطابق مع مقدماته، فبعد أن كان الحديث يدور أساسا عن الأحزاب اليسارية الصغرى الذاهبة إلى الانقراض، بحسب توقعه، انقلبت النتيجة فجأة لتعلق كل مصير العملية الوحدوية على كاهل الاتحاد الاشتراكي، وليته علقه (أي المصير) وحسب، بل وضع على كاهل الاتحاد شروطا، اعتبرها هو نفسه بمثابة «ثورة أو انتفاضة» على ذاته. لكن السؤال الذي غيبه وتحاشاه يظل قائما: وما العمل، إذا لم يستوف الاتحاد كل الشروط التي وضعها عليه (؟) هل ستستمر بعدها أحزاب اليسار الصغرى، كما سماها، وهي تعرف أن لا آفاق لها غير ان تكون ذكرى من الماضي؟!
ليس بيدنا نحن أن نجيب عن هذا السؤال المأزقي. فأهله المعنيون به أولى بالإجابة عنه. بل لا نستطيع حتى توقع ماذا سيكون عليه اختيار الاتحاد اتجاه التصور الوحدوي الإدماجي الذي نتبناه ونقترحه. فكل ما نستطيعه إذن هو أن ندافع عن قناعتنا، وعن حلمنا، بأكثر ما يمكن من الانسجام والحجج العقلانية. ونسعى لكي تحظى بالقبول الواسع من لدن عموم مناضلي اليسار. وهكذا، لا يبقى أمامنا سوى أن نستأنف الخطى على نفس الطريق التي ترك أبوابها الاخ الساسي شبه مغلقة، مشددين على ما نعتبر أنه كان ينبغي إبرازه والتأكيد عليه لكي تظل أبواب الوحدة الاندماجية مفتوحة.
أولا: ضرورة الخروج من الدائرة المغلقة للاختزالية السياسوية الدستورية، والتي رفعها طرف من اليسار (وجمهور من المثقفين) الى مرتبة العقيدة المطلقة منها تشتق كل الاجوبة على جميع المعضلات. إذ لا يجادل أحد في اليسار، لا قبلا ولا اليوم، في ضرورة وأهمية إحداث إصلاحات دستورية معينة أكثر تقدما. ولا حتى في أن النظام الملكي البرلماني هو الوضع التاريخي السوي لإقامة مجال سياسي حديث وحيوي ومنتظم وفعال. لكن، هل النهوض الشعبي الديمقراطي، أو المشاركة الجماهيرية التلقائية والفعالة في الحياة السياسية، وهما ما نحتاج إليه، يتوقفان كلية على حل المسألة الدستورية؟ ألم تكن المشاركة والنهوض الشعبيين مقدمة سابقة في كل التجارب التاريخية الديمقراطية؟
ألم يحدث ومرارا في ظل أنظمة قمعية ديكتاتورية أو شمولية أو تكاد؟ لقد سبق لي في مقالات أخرى أن طرحت السؤال التالي، لماذا يشمل هذا الانحدار السياسي كافة القوى الديمقراطية الحداثية على امتداد الوطن العربي، مع أنها لم تشهد تناوبا توافقيا أعرج، بمصائبه، كما يراه البعض.؟ ومع ان بعض قواها الديمقراطية الحداثية المعارضة ذات برامج راديكالية أكثر انسجاما وتكاملا وعمقا فكريا، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا من برامج اليسار المعارض لتجربة التوافق لدينا! ما الذي يجمع بين كل هذه البلدان رغم تمايز وتفاوت أنظمتها وتجارب قواها الحية، لتعاني كل قواها الحداثية من نفس الاختناق والانحدار أو حتى الموت البطيء أو الكلي للسياسة في مجتعاتها؟
لاشك أن هذا السؤال الذي تعمدت طرحه مرارا، بقصد الاستفزاز الفكري الإيجابي، يذهب بنا الى ما هو أبعد من بعض الخصوصيات السياسية لبلدنا، ليضعنا وجها أمام معضلات عميقة ومشتركة، منها على سبيل المثال: التغير الذي حصل على نسب العلاقة بين القوى الاجتماعية، بين الرأسمال والعمل والطبقات الشعبية عموما، والذي أرغمت عليه العولمة مجتمعا كان ولايزال في سواده مجتمعا تقليديا. الانتشار السريع لقيم حديثة مقولبة على نمط المجتمع الاستهلاكي لدى شرائح واسعة وأثر ذلك على تفكيك القوى الاجتماعية وتذريرها، نوعية الموروث الثقافي والسياسي والديني السائد لدى السواد الاعظم... إلخ.
في كل الاحوال، المجال لا يتسع لا لجرد ولا لتحليل وتدقيق كل العوامل المتداخلة والمتراكبة التي تفسر لنا أسباب هذا النكوص الجماهيري، حتى وإن كانت تفسره ولا تعلله بالضرورة. فالغاية من تلك الاشارات ليس أكثر من القول، أنه ينبغي على اليسار ان يأخذ في اعتباره ومنظوره السياسي، وفي منهجية تحليله لهذه الظاهرة كل العوامل الفاعلة فيها. إذ بهذا المنظور الشمولي وحسب يمكنه أن يستنتج الحلول المناسبة لها. وحينها أيضا يستطيع ان يدير اختلافاته التكتيكية بتأن غير التأجيج والتضخيم الحاليين.
غني عن القول مثلا، أن ملف الاصلاح الديني هو من أهم تلك المعضلات المتداخلة التي أشرنا إليها، باعتباره رائزا قويا من روائز التحديث والديمقراطية والتنمية، والرافعة التاريخية للنهوض الشعبي فيها جميعا. فهل لليسار رؤية مستقلة في هذا الموضوع؟ لاشيء على وجه الاطلاق، سوى التكرار الفارغ لثلاث مقولات: الاولى، ان ذلك شأن «لإمارة المؤمنين» بلا تحديد أو تمييز. وبالتالي الاعلان المسبق عن الانسحاب الكلي من هذا الميدان الايديولوجي الخطير. والثانية، الدعوة الشعاراتية لفصل الدين عن السياسة، وكأن المسألة مجرد إجراءات قانونية، بينما هي ثمرة أخيرة لحرث ثقافي شامل ومديد يبدأ بالاصلاح الديني نفسه. والثالثة: التكرار الفارغ أيضا لشعار «القيم الدينية السمحاء» بلا جهد يذكر في صياغة المضامين.
هذه واحدة فقط من غياب المنظور الشمولي في الممارسة السياسية، وهي التي تحتاج بالأحرى الى« ثورة أو انتفاضة» على الذات.
ومادمنا في هذا السياق، لابد لي من تعليق سريع على ما أورده الاخ الساسي عن «خطورة» ما اعتبره تحالفا لامبدئيا بين الاتحاد الاشتراكي وحزب العدالة والتنمية. وأكتفي هنا بطرح السؤالين التاليين. قبل أي حديث لا عن التحالفات بمعناها الاستراتيجي ولا عن «الكتلة التاريخية» كما هي في بعض الطروحات، لأن الموضوع برمته لم يطرح بعد في أي برنامج للمناقشة. السؤالان هما:
هل الحداثة تلغي «المنطق السليم»، أي أن نتعاون مع أي كان من القوى الشعبية في القضايا التي نتفق عليها وتخدم المصلحة الوطنية الديمقراطية، ونتخالف ونتحاور وحتى نتصارع في القضايا التي يكون فيها خلاف في هذا المضمار؟ إذا كانت الحداثة تلغي المنطق السليم، فبالتأكيد هي حداثة شكلية فارغة ومجردة وغير تاريخية، لأنها خارج الفعل في السيرورة الواقعية للتقدم. الهدف إذن، هو أن نبني علاقات «طبيعية» «سوية» قبل أي حديث عن المفاهيم الكبرى كالتحالفات الاستراتيجية والكتلة التاريخية الخ ...سواء بالإيجاب أو بالسلب.. وللتذكير، فالاتحاد تعاون مع حزب العدالة والتنمية في تكتل الاغلبية المشاركة والمساندة لحكومة عبد الرحمان اليوسفي. وهي تجربة كانت مفيدة للتقدم.
كما هي مفيدة للجميع. واليسار عموما يتعاون مع «الإسلاميين» في قطاعات معينة (التعليم العالي المهندسون المركزيات النقابية الخمس) وفي قضايا قومية كبرى، تظاهرات فلسطين والعراق، وقضيتنا الوطنية الأولى.. ولقد اختلفنا على إصلاحات «مدونة الأسرة» اختلافا كاد أن يتحول الى فتنة أهلية، لكن ما ينساه البعض، أننا تحاورنا في اللجنة الوطنية، واتفقنا على حد أدنى، اعتبره الكثير منا «ثورة بيضاء هادئة». هكذا، تتحقق الحداثة في الواقع العملي، وهكذا تتراكم مكتسباتها. أما غير هذا السلوك المنطقي والعملي، تكون الحداثة حابلة بنزوعات الإقصاء والتشنج والاستعداء، وهو سلوك له ما له من نتائج مرعبة في تجارب مشابهة.
هل سنكون حداثيين وفي نفس الآن ديمقراطيين الى النهاية؟
مرد هذا السؤال بالشكل الذي عليه، الخشية من أن يكون البعض مستعداً للتواطؤ باسم الحداثة مع منطق دولتي يتعامل مع «الحركة الاسلامية» المنخرطة في العمل الديمقراطي بمنطق الاحتواء المحدود والمحسوب، والذي لا يتورع لمخاوف وحسابات سياسية ما، أن يهتك حرمة تلك الحقوق الديمقراطية (المعترف بها كونيا، كما يحلو للأخ الساسي!) التي تشدق بها. ولدينا أمثلة كثيرة على هذا المنحى، هنا وخارج الوطن. وعلينا أن نختار بكل جرأة واستقامة ومنذ الآن، أن نكون مع الديمقراطية الى النهاية، أو أن نكون ضدها، أو أن نكون بين بين!
أستسمح لهذا الاستطراد الذي اضطررت إليه. وأعود الى القول، إن الغاية من التأكيد على ضرورة تخطي الموقف الاختزالي الدستوري، بمنظور شامل لحالة المجتمع ولكافة معيقاته، هي، تنسيب الخلافات السياسية الراهنة في صفوف اليسار، ونفي صفة الجمود والإطلاقية عنها. وعندها، سنتواضع (إن صح هذا التعبير)، لنتوحد، أمام الأسئلة التاريخية الكبرى والتحديات الجمة التي ستواجهنا في المرحلة القادمة، ولربما لعقد من الزمن.
ثانيا: ضرورة التركيز على المستقبل: ينبغي التفكير في وحدة اليسار من خلال دينامية وتحديات المستقبل. لا من خلال الانحباس في الخلافات السياسية التي شهدتها هذه المرحلة، والتي أوشكت على الانتهاء، وبالتالي، ينبغي وضع هذه الخلافات في المرتبة الثانوية عند اتخاذ القرار الوحدوي.
إن الوضع المتأزم الذي باتت تتخبط فيه قوى اليسار عامة، أنها لم تعد قادرة على الاستفادة الجماهيرية لا من الإصلاح الدستوري الذي تطالب به، ولا من المعارضة إن اختارتها أو اضطرت إليها، ولا من المشاركة الحكومية إن هي استأنفتها. لسبب أولي، هي أنها لم تخطط بعد لكي تستثمر كل إمكانياتها الشعبية الكامنة. وإذا بقي الوضع على حاله، فليس مستبعدا بتاتاً، بقراءة ظاهرة لتوزيع القوى الانتخابية، أنه بعد عقد من الزمن، ومع افتراض حصول الإصلاح الدستوري في حده الأدنى المطلوب، سنعود من جديد لنفس نقطة البداية، لنكرر نفس انتقادات اليوم، لأن النهوض السياسي الديمقراطي المنشود، لم يتم كحصيلة مباشرة لهذا الإصلاح الدستوري ولغيره من الإصلاحات الأخرى، بل الأرجح في الاحتمالات، أن الذي سيستفيد منها، بحسب الخريطة الانتخابية المتوقعة، هي قوى اليمين بأي تحالف معين كانت ولا محالة أنها ستعيد إنتاج نفس العلاقات التقليدية في نظام الحكم بلباس دستوري مغاير ولكنه فضفاض على المقاس. وهكذا، سندور من جديد في نفس الحلقة السيزيفية السياسوية المعتادة.
قصدي من وراء هذا التلميح السودوي لسيناريو محتمل في المرحلة القادمة، أن يمسك اليسار جيداً بالحلقة المركزية في الوضع، والتي هي في نظري، المسألة التنظيمية، بما هي تعبير عن ضعف اليسار وتهلهله. وفي قلب المسألة التنظيمية، أو في بدئها، إدماج اليسار في حزب واحد وموحَّد.
مرة أخرى، كل الإصلاحات الدستورية والسياسية والمؤسساتية هامة وضرورية وآنية، كيفما كانت الخريطة الحزبية الانتخابية، لكن جدواها ومآلها واستثماراتها الديمقراطية سيتوقف بالدرجة الأولى على وضعية اليسار وعلى قدرته وفاعليته المستقبلية.
لكن ما معنى المسألة التنظيمية، وما هي أوجهها؟
بوجه عام، التنظيم هو حلقة الوصل بين الخط السياسي والفكري (الايديولوجي) للحزب وبين ممارساته الجماهيرية. فالمطلوب إذن، أولا، أن يكون للحزب خط سياسي وفكري واضحين ومطابقين لحاجيات المجتمع المغربي.
وثانيا، أن يكون منخرطاً في ممارسات جماهيرية دائمة بحسب حاجياتها المتنوعة. وثالثا: أن تكون الهياكل التنظيمية ملائمة وقادرة على الوصل الجدلي بين الأمرين السابقين. وأي خلل في أطراف هذه المعادلة الثلاثية يؤدي إلى الأزمة أو الشلل.
لو تمعنا جيداً في أطراف تلك المعادلة، كلمة كلمة، لأدركنا بسهولة فداحة حجم الخلل الذي أصاب اليسار. فبهذا المعنى الشمولي إذن أضع المسألة التنظيمية كبؤرة جامعة لكل مظاهر الأزمة.
والحق، أني كنت، ومازلت، على قناعة تامة، بأن الخلل السياسي لم يكن في قبول الاتحاد الاشتراكي بدستور 96 وبالمشاركة في حكومة التناوب التوافقي، ولا حتى بالمشاركة في الحكومتين التاليتين لها، بل في تخلف الأداة الحزبية وعقمها .. وبالتالي، عجزها على ترجمة هذ الخط وتوضيحه مع حفاظها على حركية الحزب المستقلة اتجاه جاهيره وقواعده الشعبية، وهي إمكانية لم تكن مستحيلة إلا في نظر ضيقي الأفق ممن تصوروا أن العمل الحكومي ينوب كلية عن العمل الجماهيري أو يعوقه ويشل التفكير فيه وإبداع وسائله وبرامجه.
وكيفما كان الحال، فإن غالبية الاتحاديين اليوم أعادوا النظر، ولو بأثر رجعي، في بعض حلقات التجرية الماضية.
لكنهم مازالوا يتمسكون جميعا على عكس انتظارات الأخ الساسي بصوابية موقف الاتحاد من دستور 96 وبالقيمة التاريخية (وهي أكثر من سياسية) لحكومة عبد الرحمان اليوسفي، كما تجتمع كل الآراء في النهاية، وعلى تفاوتها وتمايزها، لتصب جميعها في موقف موحد، يشدد على ضرورة القيام بإصلاحات دستورية وسياسية ومؤسساتية جديدة، يؤمل في إنجازها أن تعيد الاعتبار لما هو سياسي.
ولأني شددت من جهتي على التفكير في الوحدة الادماجية بمنظور مستقبلي، يضع الخلافات السابقة في الحجم الذي لايعيق الوحدة العاجلة لمواجهة تحديات المرحلة القادمة، فإني أعتبر أن أسس رؤية سياسية مشتركة للمرحلة القادمة، قد أصبحت متوفرة اليوم بين كل فصائل اليسار أو معظمها، وأكثر من أي وقت مضى.
خاصة إن ركزت هذه الفصائل على ما يجمعها، تاركة خلافات الماضي وكل الخلافات الممكنة، للسيرورة المستقبلية. وعيا منها، أن الحاسم في الأمر ليس الخلاف بحد ذاته، بل أن يكون لتلك الخلافات قوة شعبية تستقبلها وتتبناها، وبعبارة أخرى في مرحلة التراجع الشعبي لليسار، ولزمن قد يطول، فإن كسب الأغلبية أولا داخل اليسار في حزبه الموحد، هو الطريق الأمثل لكسب الأغلبية الشعبية مستقبلا.
وإذا كتب لهذا التصور النجاح، فإن المسألة التنظيمية ستأخذ مكانتها الفاصلة والحاسمة، عندئد وما يهمني طرحه في هذه العجالة من بين كل تلك القضايا التي تطرحها المسألة التنظيمية على المستوى الأيديولوجي والهيكلي والممارسات الجماهيرية، الحاجة الماسة إلى وضع ما يمكن أن نسميه بالبرنامج المجتمعي.
فإذا كان البرنامج السياسي يتمحور على علاقة الحزب بالسلطة ومؤسساتها، وبأدوار الدولة كما يراها الحزب في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ... ألخ، فإن البرنامج المجتمعي يركز على علاقاته بمكونات المجتمع (العمال الفلاحون الشباب المرأة المقاولون المثقفون ... إلخ)، وعلى كيفية اشتغاله معها من أجل إحداث النهوض الديمقراطي المنشود.
أعتقد أن هذا البرنامج هو روح العمل الحزبي الدائم في كل الأوضاع السياسية، وهو الذي يحدد في النهاية موقع الحزب في الحراك الاجتماعي والسياسي، وبه من الاستقلالية ومكامن الإبداع والخلق مالا يخطر على بال التفكير السياسوي التقليدي. وعلى سبيل المثال لا الحصر: ضعف اليسار في أغلب المدن الكبرى، وتمدد أكثر في البوادي. فكيف سيستعيد اليسار مواقعه المفقودة؟ وهل تمدده القروي بات يخدم التحديث أم أنه مجرد عمل انتخابوي بنفس العلاقات التقليدية؟ وهل يسعى الحزب الى تحويل تمدده الانتخابي الى قوة اجتماعية فلاحية منظمة وطنيا؟، وبأي برامج وأساليب عمل يمكنه ذلك؟البرنامج المجتمعي إذن يجيب عن مثل هذه الإشكالات التي تطرحها الممارسة الجماهيرية على الحزب لدى كافة المكونات الاجتماعية.
هناك سؤال آخر يطرحه التفكير في الوحدة من منظور مستقبلي، إذ من الواضح، على عكس الاتجاه الغالب، أني أركز في تحليلي لما نسميه بأزمة السياسة على العوائق المجتمعية الأكثر صلابة وديمومة زمنية، أكثر من المعالجات السياسية الأخرى.
فهل ستواجه عملية إعادة بناء اليسار لاستعادة طابعه الشعبي الجماهيري نفس العوائق، مما سيجعله يدور في حلقة مفرغة، أو مما سيطيل أزمته؟ سؤال من هذا النوع، جوابه الوحيد هو الممارسة. ففي الممارسة الجماهيرية نقاوم ونغير ونبدع ونراكم، ولاشيء آخر غير الممارسة الواعية والمبدعة.
ثالثا، ضرورة التشديد على الوحدة الادماجية الفورية:
لاشك أن أهم ما جاء به الأخ الساسي في مقالته، أنه تلمس الطريق إلى الإقرار، بأن الخطوة الأولى في معالجة وضعية اليسار المأزومة هي إنجاز وحدته الاندماجية، وخاصة لمصلحة فصائله الصغرى، وإلا فلا مستقبل لها، فضلا عن أنها ضرورة عقلانية لكافة قوى اليسار.
وفي تلمسه ذاك، أمران في غاية الأهمية الاسراتيجية:
الأول: الدور الذي باتت تلعبه التمثيلية الحزبية في المؤسسات المنتخبة للحكم على سياسية أي حزب وعلى مصيره أيضا، وهذا عنصر جديد في التفكير السياسي لليسار عموما، وهو العنصر الأبرز في مقالة الأخ الساسي.
ثانيا: ضعف (أوتراجع) الوعي السياسي الديمقراطي لدى الجماهير الشعبية عامة، والظاهر في نوعية تصويتاتها وغلبة العزوف والاستنكاف عليها، وكيفما كانت الأسباب والتفسيرات، والتي لاتستثنى حركيتها الاجتماعية أيضا من هذا الضعف، فإن هذا الواقع المعاق من المرجح أنه سيدوم طويلا.
هذان العنصران الاستراتيجيان هما بالضبط ما كانا وراء القرار الوحدوي الاندماجي الذي اتخذه مناضلو الحزب الاشتراكي الديمقراطي سابقا. عدا بطبيعة الحال عوامل أخرى إضافية. وهذا ما يجعلني بالمناسبة أن أؤكد، لمن طالهم الشك صحة هذا القرار في الراهن والمستقبل، حتى وإن شابته في الممارسة العملية بعض العيوب.
وعلى أساس هذه الخلفية، كان ينبغي توجيه النقد الصريح لشعار «اليسار المتعدد» الذي يبرر هذا الانقسام ويمجده ويطيل من عمره .. مكتفيا بالدعوة الى التنسيق القاعدي أو المرحلي وإلى التحالفات الفصائلية، حفاظا على مصالح كيانية ضيقة، مع أن التجربة أثبتت إلى اليوم أنه شعار فاشل على المستوى العملي، وأنه لم ينتج سوى الدعوات اللفظية وتنسيقات هشة وهامشية سرعان ما ينفك عقدها بعد حين.
ولنلحظ أولا، أنه ليس لكل فصائل اليسار نفس الخلاف السياسي أو الايدلوجي مع الاتحاد الاشتراكي، ولنلحظ ثانيا، أنها لاتتساوى في صلابة كيانياتها المستقلة التي قد تصعب ذوبان أيا منها في مشروع حزبي مستقبلي. ومن هذه الزاوية الأخيرة على وجه الخصوص، وإذا تخطينا وحدويا وعقلانيا الخلافات السياسية الممكنة كما أوضحنا، فإن حزب التقدم والاشتراكية هو الفصيل الوحيد الذي يتمتع فعلا بكيانية لها قدر من التماسك التاريخي المستقل، ولكنه أيضا الفصيل الذي لاخلاف له اطلاقا مع الاتحاد الاشتراكي ويتمتع بمرونة عقلانية كبيرة تؤهله أن يكون منخرطا، بل ورياديا في هذه المبادرة الوحدوية الادماجية، وفي تاريخ الحزب سابقة من هذا النوع، عندما طرح من قبله في منتصف الستينات الاندماج مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في حزب واحد موحد، أي في مرحلة كان فيها للايدلوجيا مكانة فاصلة، وكان التنظيم المستقل للطبقة العاملة بمثابة عقيدة، فكيف والوضع الراهن حيث انقلبت كل المعطيات؟
مصداقية اليسار ومشروعه المستقبلي سيرتبطان إلى حد كبير بمدى تجرد فصائله وبمدى جرأتها على اجراء هذه الخطوة الوحدوية الجبارة، وعندما تعلن كل فصائل اليسار أو معظمها أنها على استعداد مبدئي للانخراط في هذا المشروع التاريخي فورا و بلا تردد، حينذاك لن يصعب علينا أن نفكر «بلا عقد» في الاسم وفي غيره من الخطوات العملية والاجرائية.
إنه حلم، ولكنه الحلم المجدي والفعال...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.