12. مواجهة العجز والتهميش الاجتماعي: لقد فطن اليوسفي منذ البداية بأنه لا يمكن تحقيق أي فعالية اقتصادية أو تنمية مستديمة دون مقاومة حازمة للعجز الاجتماعي،ومن أجل ذلك أولت الحكومة اهتماما بالغ الأهمية للحوافز المشجعة للاستثمار الداخلي والخارجي لربح تحدي التشغيل ومن تم ربح رهان مواجهة تراكمات الماضي في مجالي الفقر والإقصاء الاجتماعي خصوصا في العالم القروي. كما بادرت منذ بداية ولايتها إلى بلورة إستراتيجية شاملة ومندمجة للتنمية الاجتماعية تقوم على سن سياسة إرادية لتشغيل الشباب من جهة، وعلى اعتماد سياسة اجتماعية تضامنية من جهة أخرى. كما تم التركيز على تطوير الخدمات الاجتماعية الأساسية، وتسريع وتيرة استفادة السكان القرويين من التجهيزات الأساسية، وتدعيم برامج السكن الاجتماعي. ومن أجل ترميم الاحتياط الاجتماعي بالبلاد، عملت الحكومة على وضع مشروع مدونة للتغطية الصحية الأساسية حيث اعتبرت هذه المبادرة من طرف المتتبعين أحد العطاءات المثالية لحكومة اليوسفي. وفي هذا الصدد قال اليوسفي «ولي اليقين بأننا بتبنينا هذا الإصلاح ذي البعد الحضاري نكون قد عبدنا الطريق لتعميم ولوج الخدمات الطبية على مراحل بالنسبة لكل فئات مجتمعنا». كما أضفت هذه الحكومة مضمونا ملموسا على الاقتصاد التضامني حيث كرست مجهودات كبيرة من أجل تأهيل جهازين أساسيين من منظومة الحماية الاجتماعية ببلادنا، هما الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي. 13. الأوراش الكبرى وتكثيف البنية التحتية: في إطار المجهودات الرامية لتأهيل الاقتصاد الوطني، أعطت الحكومة أهمية استثنائية لتكثيف البنية التحتية (الطرق السيارة، إعطاء الانطلاقة لتشييد الطريق الساحلي المتوسطي، وإنشاء المركبات لتوليد الطاقة، ومواصلة تنفيذ المخطط المائي وتشييد سدود جديدة، وبلورة برنامج تأهيل الموانئ وتشييد أخرى جديدة في كل من اكادير والجديدة بالخصوص،....). وفي إطار برنامج تنمية أقاليم الشمال، أعطت الحكومة الانطلاقة لتنفيذ مشاريع ذات صبغة محلية ومشاريع مهيكلة للمجال الترابي، كالطريق الساحلي المتوسطي لربط طنجة والسعيدية على مسافة 555 كلم باستثمار يصل إلى 5 ملايير درهم. هذا الورش أنجزت الحكومة منه 80 كلم عند نهاية ولايتها. 14. التنمية القروية: لقد تم اعتماد إستراتيجية التنمية القروية المندمجة حيث عبأت الحكومة موارد مالية هامة بلغت 9.5 مليار درهم كمعدل سنوي بزيادة 50 بالمائة عما كانت عليه سنة 1997 و1998. كما عملت الحكومة على الرفع من وتيرة انجاز الطرق القروية، إضافة إلى الإجراءات الرامية إلى تكثيف التبادلات، وتحسين التمدرس، وتخفيض كلفة النقل واستقرار الأثمنة. وفي نفس الاتجاه، تم التصدي للأمية بخفض معدلها من 75 بالمائة إلى 60 بالمائة. أما عن الكهربة القروية، فقد عملت الحكومة على رفع وتيرة انجاز برنامجها إلى 1500 قرية سنويا عوض 1000 سابقا. وعلاوة على ذلك، أولت الحكومة اهتماما كبيرا للسكن القروي قوامه تنمية أقطاب حضرية متوسطة في العالم القروي، وخاصة في المناطق النائية. وتهدف الحكومة بهذه البرامج التحكم في الهجرة وتوفير الشروط اللازمة لتنمية متوازنة للتراب الوطني. وفي الميدان الفلاحي، ارتكزت سياسة الحكومة في هذا المجال على محورين مركزيين، أولهما دعم عملية تنظيم الفلاحين بالمساهمة في إنشاء تعاونيات فلاحية تعد بالنسبة لصغارهم على الخصوص، إطارا ملائما للارتقاء بحياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وثانيهما مواصلة بناء السدود لتوطيد وتوسيع المناطق السقوية مع إعطاء الأولوية للسقي الصغير والمتوسط لما له من دور في تأمين الإنتاج الفلاحي وتثمين الموارد المائية (انجاز عدد من السدود، خمسة منها تستعمل أساسا للري، كما تم تجهيز أكثر من 65000 هكتار إضافية للري، واستصلاح 53000 هكتار). وقد تحققت هذه الإنجازات عملا بمنهجية جديدة تتوخى إدماج كل العمليات لتفادي الإهدار والتبذير للموارد الناتجين عن التفاوت ما بين بناء السدود وتجهيز الأراضي. ومن أجل ذلك، أنشأ اليوسفي لجنة وزارية للماء تعمل تحت إشرافه المباشر للحرص على تنسيق السياسة القطاعية في إطار منظور شامل ومنسجم لتعبئة واستثمار وحماية مواردنا المائية. كما عملت الحكومة على تحويل مؤسسة القرض الفلاحي إلى أداة لخلق حركية مالية تيسر الرفع من وتيرة المبادلات الاقتصادية بالعالم القروي، باعتبارها أحد المفاتيح لتنمية قروية حقيقية، علما بأن الحكومة قامت في هذا الصدد، بمعالجة مرضية لمديونية الفلاحين، تطلب مساهمة مباشرة من الدولة بمبلغ 1.2 مليار درهم. وحرصا من هذه الحكومة على ضمان استمرارية إنجاز هذه العمليات المندمجة، انعكفت في آخر ولايتها على وضع نظام ملائم لصندوق التنمية القروية لتأمين موارد مالية قارة له. وقد اعتبرت الحكومة هذا الإجراء ذا أهمية بالغة تفاديا لما يطبع تدخلات الدولة سابقا في مثل هذه الحالات، من تذبذب وارتجالية. كما وعد اليوسفي في حالة استمرار الإصلاحات في إطار الانتقال الديمقراطي بوضع اطار قانوني يتعلق بالمناطق الجبلية من أجل تمكين سكان تلك المناطق من استثمار الموارد المتوفرة لديهم. وفي آخر ولاية حكومته، صرح اليوسفي أن وضعية العالم القروي عرفت في 2002 تحسنا مهما ونسبيا في آن واحد رغم الثلاث سنوات المتتالية من الجفاف. خاتمة: ويتضح من خلال ما سبق أن حكومة عبد الرحمان اليوسفي استطاعت في زمن قياسي فتح العديد من الأوراش الإصلاحية والتنموية التي نتكلم عنها اليوم والتقدم في تنفيذها. فالمجهودات الحكومية للإسراع في تنفيذ البرامج خلال هذه الولاية كانت تعبيرا عن الوعي العميق لوزيرها الأول بحجم الانتظارات والحاجيات الشعبية. وفي هذا الصدد، صرح اليوسفي في نهاية ولايته أن التحديات والرهانات الرئيسية التي تواجهها بلادنا أصبحت اليوم واضحة ومحددة، وأضاف أن الإصلاحات الأساسية التي تشكل أسس المغرب الديمقراطي والعصري والمتضامن للقرن الحادي والعشرين، في مجالات الحريات العامة واللامركزية والجهوية، والتربية والتكوين والتكنولوجيات الحديثة للإعلام، والحماية الاجتماعية، قد تم الشروع فيها ويتعين مواصلتها إلى النهاية وإنجاحها. ويتضح من خلال هذا التصريح أن اليوسفي كان يراهن على تحقيق التناوب من خلال الاستحقاقات 2002 كسبيل وحيد لإتمام الإصلاحات. لقد كان واعيا كل الوعي أن ما قامت به الحكومة مكن البلاد من تجاوز المرحلة الحرجة التي وصفها المرحوم الحسن الثاني «البلاد مهددة بالسكتة القلبية» وأن الرفع من الوعي السياسي بالبلاد رهين بإتمام التطبيق التدريجي للإصلاح الشامل لنظام التربية والتكوين الذي يعد بالنسبة له أحد مفاتيح المستقبل، لأن لا مستقبل إلا عن طريق تربية وتكوين الأجيال الصاعدة. كما عبر من خلال دعواته المتكررة لمحاربة البطء في تنفيذ البرامج الحكومية عن إرادته الراسخة للمرور إلى مرحلة تمكن من تفعيل مبدأ تكافؤ الفرص وإعطائه مدلولا أشمل وأكمل، وذلك بتكريس الحق في الشغل على أوسع نطاق، لأنه مفتاح كرامة الإنسان وأمله في العيش الرغيد، وبمواصلة العمل على تقليص الفوارق الاجتماعية بتقوية شبكات الحماية الاجتماعية وآليات التضامن مع إرساء التأمين الإجباري عن المرض كأولوية استعجالية. وإلى جانب هذه الانشغالات، لم يخف اليوسفي أن التزامه بتحمل هذه المسؤولية جاء كتتويج لارتقاء فضيلة التوافق وتغليب المصلحة العليا للوطن على الحسابات الذاتية أو الحزبية في منعطف دقيق من مسار الشعب المغربي. واستحضارا لحرص اليوسفي على الوفاء بالتزاماته وللقيم التي قادته طيلة مسيرته النضالية، وللوازع الوطني المحض الذي دفعه للمغامرة برصيد حزبه لإنقاذ البلاد، وتمعنا في مختلف التحاليل والتقييمات لمجمل التراكمات التي عرفها المغرب ما بعد هذه الحكومة، هل يمكن نعت اليوسفي ب»قاتل التناوب»؟ لا يمكن لأحد أن يجادل أن هذا الرجل كان وراء إنقاذ البلاد من الإفلاس وأعاد الحياة للمجال السياسي وأنعش الاقتصاد الوطني، وأعاد الأمل في إمكانية تقوية الثقة بين المؤسسات والمواطنين. وإنصافا لتجذر العمق الوطني لعمل حكومته، توجت الاستحقاقات التشريعية لسنة 2002، بتجديد الثقة في حزبه بحصوله على المرتبة الأولى. لقد صنعت هذه الحكومة رمزا سياسيا استطاع أن يرسخ لأول مرة في التاريخ المغربي المعاصر قدرة المرجعية الاشتراكية على إحداث التغيير بالمغرب. فبالرغم من قصر مدة تحمله مسؤولية الوزير الأول (1998 2002)، يحس الناس اليوم أنهم مجبرون على استحضار هذا الرمز في حياتهم لما أسداه من خدمات صادقة لهذا البلد. لقد نجح من خلال قيادته لهذه التجربة من إزالة حالة التوتر الحاد الذي شعر به الناس بين حياتهم الخاصة والإيديولوجيا السائدة في المجتمع. لقد حول من باب الوطنية الرصيد السياسي لحزبه إلى ضرورات أخلاقية حملت في طياتها تحديات، وأبرزت رؤية جديدة خلقت طموحا مجتمعيا لدعم الانتقال الديمقراطي. لقد تحولت التجربة إلى حوارات وطنية دائمة فتحت الباب لطيف واسع من أبناء هذا البلد للتعبير على طموحاتهم. والسؤال الموضوعي الواجب طرحه: من كان وراء تضبيب الرمزية السياسية لهذه التجربة والإحالة دون تلميعها إلى درجة تجعل المواطنين ينظرون إليها برهبة وإعجاب دائمين، ومن تم حفاظ رمز «الوردة» على موطئ قدم راسخ في الحياة السياسية لسنوات عديدة؟ مما لا شك فيه، أن التجربة تعرضت للهجوم والتحامل. فعوض أن تحظى بالإشهار الموضوعي لتقوية الرمزية التاريخية للتجربة كمرحلة انتقالية للمرور إلى الديمقراطية، تم الهجوم عليها لتقويض تأثيراتها السياسية. وبالرغم من ذلك، أعتقد أن التراجع السياسي الذي عرفه ويعرفه المغرب وتأثيره على رمز «الوردة» ما هو إلا تراجع ظرفي خاصة أن الحزب ربح رمزية الحدث وكاريزمية اليوسفي الذي أبان بحكم الجميع على قدرة فائقة على توفير القيادة الثقافية في أوقات تعاظمت الحاجة إليها. فما تعرفه الدول الديمقراطية من تحويل لتجاربهم السياسية إلى رموز تاريخية كتعبير عن وعيهم بالمستقل وبقيمة الرموز وبنائها لكسب معارك المنافسة المجتمعية، يجعلنا نرجح فرضية خلق التحول في منطق تعامل الدولة مع السياسة حماية للمكتسبات، وتقوية للأمل في المستقبل، واحتراما للرموز السياسية، وإعادة الثقة في العقيدة السياسية التي بنتها التجربة، وترسيخا لمفهوم الشعبية بشكلها الأنقى والأكثر أصالة، وتفنيدا للاتهامات غير المبررة وللخطابات الديماغوجية المصلحية. انتهى