يعد مولاي الطاهر الأصبهاني من بين الأعمدة الأساسية لمجموعة جيل جيلالة، بل من أعمدة المجموعات الغنائية ككل، صوته أطرب الكثيرين، منهم مسؤولون في الدولة، بل أكثر من هذا كان قد أثنى عليه العندليب الأسمر في أواخر السبعينات، عندما كان في زيارة للمغرب ودعاه أحد المسؤولين إلى حفل ستحييه فرقة جيل جيلالة، أدت خلالها أغنية «ليغارة»، ولأن الأغنية استهوته كثيرا صعد العنديب الأسمر إلى الخشبة، وأخذ البندير في يده وبدأ يغني مع المجموعة، وبعد انتهائها سيمسك العندليب بيد مولاي (كما يناديه المقربون منه) ويعلن في الحضور بأن صوته من أجمل ما سمع في حياته. شكل صوت مولاي الطاهر الأصبهاني رنة خاصة في أذان الأجيال، حتى أن الشباب الذي يقلد المجموعة غالبا ما يقلدون صوته، الذي أسكن في أذهان المتلقين- بمعية أصوات الدرهم والطاهري وعبد الكريم وسكينة والسعدي- فن الملحون وجعله فنا مشاعا لدى الشباب الذي كان يستثقل الطريقة التي يؤدى بها من طرف شيوخه. في هذه السلسلة سنسافر مع الأصبهاني وسط قلعة جيل جيلالة لنطلع على أسرارها ومسارها. كانت لجيل جيلالة مشاركات دولية عدة في مختلف القارات الخمس تمكنت خلالها هذه الفرقة من التعريف بالغناء التراثي المغربي من جهة ، ومن إبراز نمط تفكير جيل السبعينات من بلاد المغرب الاقصى، الذي أخذ يعبر عن همومه وتطلعاته، سواء بواسطة الغناء او غيره من الابداعات الفنية الاخرى. من بين المشاركات التي ظلت راسخة في ذاكرة مولاي الطاهر الاصبهاني، كما يروي في هذه السلسلة، تلك التي قادت الفرقة الى العربية السعودية سنة 1979 حين نظمت وزارة الثقافة الاسبوع الثقافي المغربي هناك والذي شارك فيه ، الى جانبهم، عدد من نجوم الاغنية المغربية كمحمد الحياني وعبد الهادي بلخياط والدكالي ومحمود الادريسي، بالاضافة الى الجوق الاندلسي والفنان المرحوم ابو الصواب وغيرهم... و كان على الوفد الفني المغربي ان يقدم أربعة عروض في كل من الدمام والظهران وجدةوالرياض. كنت شعبية بلخياط والحياني والدكالي تسبقهم في السعودية، اما بالنسبة لنا ، يقول مولاي الطاهر، فرغم ان السعوديين كانوا يسمعون عنا الا ان اي لقاء مباشر لم يجمعنا معهم... أذكر ان مستوى التجاوب مع اعمالنا كان بحجم التجاوب مع الفنانين الآخرين، لكن في الرياض سيزداد التجاوب اكثر، خصوصا حينما أدينا اغنية القدس لكاتبها الصحفي المرحوم بنعيسي الفاسي: «يا الخالقني صار كل عربي في ارضك مشطون وكل كلامك عدل وإحسان لين بهاد القهرة طغى سكين الصهيون ومن بلاهم فانياني شلا أحزان العربي خويا جيل واحد قاهراه الغربة العربي خويا وقلب و احد دامياه الحربة العربي خويا وشحال من عربي ساكن خربة» . كان جمهور الرياض يتألف من مسؤولين سياسيين ومثقفين وفنانين لم يتحرك طيلة أدائنا للأغنية وبعد انتهائنا سيظل صامتا برهة قبل ان تنطلق موجة من التصفيق تلتها المطالبة بإعادة الاغنية. وبعد السهرة طلب منا تسجيلها مع اغان أخرى للتلفزة السعودية .أكثر من هذا فإن الامير فهد بن سلطان ، أمير الرياض انذاك، دعانا إلى قصره، حيث جاء من ابلغنا بأن الامير يريد ان يلتقي بجيل جيلالة لوحدها. اعتقدنا أنه سيطلب منا أن نغني في قصره، لكن عكس ذلك الاعتقاد، فقد كانت دعوة للنقاش، وتبادل الآراء والدردشة . سألنا عن المدن التي ننتمي اليها، وعن السر في جعل الشباب المغربي يتعاطى مثل هذه الالوان الغنائية وما الى هذا. و قد كان على إلمام كبير بتفاصيل الحياة المغربية. رحلة اخرى ظلت موشومة في ذاكرة الاصبهاني وهي رحلة طوكيو، فقد تمت دعوة جيل جيلالة في سنة 1986 للمشاركة في فعاليات المهرجان الافريقي بطوكيو وسيرافقهم في هذه الرحلة الفريدة أحمد الشريف الادريسي عازف «الساكسو» بالجوق الوطني وعمارعازف «السانتيتيزور» وبلخياط عازف «الطرومبيت»، وهي الرحلة التي سيغيب عنها عبد الكريم قسبجي صاحب الصوت الرائع داخل المجموعة. فكيف غاب هذا الصوت عن هذه الرحلة الهامة، خصوصا وان الاختيار وقع على جيل جيلالة دون غيرها لتمثيل المغرب والمغرب العربي؟ يروي مولاي الطاهر، وهو يستجمع شتات ضحكه، بأن سبب غياب عبد الكريم كان بسيطا جدا، فالرجل لم يصدق ان الطائرة قد تصل الى اليابان وبأنه لابد وأن تسقط في اي مكان من الكرة الارضية ! فعند بلوغنا المطار، يقول مولاي الطاهر، لركوب الطائرة التي ستقلنا الى باريس ومن هناك الى طوكيو، علم عبد الكريم أن الرحلة المتجهة من باريس الى طوكيو ستكون مباشرة وتستغرق ازيد من 12 ساعة، وبعد قيامنا بالاجراءات الادارية داخل المطار سيتركنا في قاعة الانتظار ويطلب من أحد رجال الامن السماح له للعودة الى البهو ، لأنه نسي شيئا مهما. وهو ما تم ، لكن منذ تلك اللحظة لم نره!! كنا نعلم بطبيعة الحال تخوفه من مثل هذه الرحلات، لذلك لم نستغرب، غير أن الجميل انه لما عاد الى بيته وجالس والده الذي كان يتفرج على التلفزة، أذيع خبر مشاركة جيل جيلالة بطوكيو، فالتفت اليه والده مستغربا «اش بارك كادير حدايا ؟!» بطوكيو ، يسترسل مولاي الطاهر، سأفاجأ بتنظيم عجيب لم اشهده من قبل سواء من حيث دقته أو طريقة تسطيره، فلدى وصولنا الى الفندق سيوزع علينا البرنامج الذي يجب ان نلتزم به ، وهو برنامج مكثف يسطر لقاءاتنا مع الصحافة اليابانية يوميا ، والاماكن التي سنؤدي فيها عملنا وتوقيتها والندوات التي سنحضرها واللقاءات الهامشية للمهرجان. وكان علينا ان نلتزم بكل ذلك، وهو الشيء الذي لم نكن متعودين عليه ففي الثامنة صباحا مثلا يجب ان نجيب عن اسئلة مختلف المنابر الاعلامية. وفي العاشرة علينا ان نغني في الاماكن المخصصة الى ذلك، وبعد الزوال المشاركة في اوراش، و في الليل نعود الى خشبة الغناء. كانت الصحافة اليابانية التي كتبت عنا كثيرا في هذا المهرجان، تسألنا عن الآلات التي نستعملها وهل غناؤنا يشكل معارضة في البلاد؟ ومن اين نستوحي تلك الانغام؟... لم تكن صحافتهم مشدوهة، بل كانت تريد ان تعرف كل كبيرة وصغيرة عنا وعن الاغاني التي نؤديها. وللتاريخ ، يقول مولاي الطاهر، لأول مرة في تجربتنا نحس اننا بالفعل نعامل كفنانين ليس فقط من جانب اليابانيين، بل ايضا من طرف الجانب المغربي، فسفير المغرب بطوكيو آنذاك السيد عبد العزيز بنجلون خصنا باستقبال رفيع، بحيث وجدنا وفدا من السفارة يستقبلنا في المطار ويرحب بنا ، وضع رهن اشارتنا كل ما نحتاج اليه. اكثر من هذا فمعظم الايام التي قضيناها هناك كان يدعونا الى منزله وكنا نحس اننا في بلدنا ومع اقاربنا ،بل اكثر من هذا أننا فنانون نمثل بلدنا فعلا. هذه السنّة سنقف عليها ايضا في سنة 1993 بواشنطن من طرف السفير محمد بلخياط، وايضا في 2003 من قبل سفير المغرب بالجزائر سعيد بريان، دون أن ننسى السفير المغربي في سوريا قبل ذلك .