هذا الكتاب لقاءٌ، أو بالأحرى ثمرة لقاء. فأما أحدنا، فمولود في الإسكندرية، ويعيش في باريس، وأما الآخر، فمولود في الجديدة، على الساحل الأطلسي، ويعيش في المغرب. كان التقاؤنا من حول كتبنا ومن حول كتاباتنا. ثم لم نسلم من إغراء مواصلة هذه الاندفاعة [نحو بعضنا البعض]. لكننا حرصنا، على امتداد هذه السنوات الأربع، ألا نفرط في شيء من جوهر أدبيات الالتقاء. لقد كانت أحداث من قبيل ندوة الرباط عن الازدواجية اللغوية، أو أحداث أخرى، على صعيد آخر مختلف، من قبيل حرب لبنان، هي التي يفترض أنها تمنح هذه الرسائل قوتَها القاطعة. وعليه، فقد لزمنا، كما لو من غير إدراك منا، أن نعتصم بما بدا لنا شيئاً أساسياً؛ ألا وهي اللغة، والتاريخ، والعلاقات الملتبسة القائمة بين ما هو أغلبي وما هو أقلي، وبين ما هو أهلي وما يسمى دخيلاً، وفي الأخير عودة الديني والأصولي، اللذين صار يتعين على اليهود والمسلمين والمسيحيين في الشرق الأوسط أن يواجهوهما في الوقت الراهن، كلاً على طريقته. لقد كنا مشغوليْن بقضية لا نرانا وفَّيناها حق قدرها، ما جعلنا نطرق هذه المشكلات في عجالة، وفي تصميم على أن نقول، في زمن تعمدنا تحديده [وعدم الخروج عنه]، ما كان يهمنا [دون سواه]. وكانت النتيجة : كتاباً مشتركاً يؤكد اختلافاتنا والتقاءاتنا من حول تاريخ قديم، ضارب في القدم. ترانا وفينا بهذا الوعد؟ إن حكمه يعود إلى القارئ، ويقع عليه، كذلك، أن يدفع بالنقاش من حيث يرى، بدوره، أنه ينخرط في هذا الضرب من التراسل. ولنكرر القول إنه تراسل كان قد انطبع بمشروع محتمل للنشر، وبسر بيِّن مكشوف. إنك تذكرني بجملة وردت في نص من نصوصي. لا أذكر أين توجد، إلا أن تكون في ذلك النسيان، لكني أتعرف عليها. إن ما يثيرني في هذا الانتقال من لغة إلى أخرى، هو ذلك الضياع للذاكرة. نسيان ليس هو بالنسيان بالمعنى الشائع، بل هو، كذلك، حياة للنسيان، وتقليب للكلمات المنسية، ومراوحة، وخط، ونشيد، وشيء مما لاينسى، ووفرة للنسيان حتى ليفيض على نفسه، ويشتغل لحسابه. والحال أنني يحدث لي أن أنسى بعض الكلمات وبعض العبارات التي تنتمي إلى اللغة الأم التي هي، في ما يبدو لي، التي شكلتني. شعور غريب بالخجل : لا أتخلص منه إلا بالنشيد... وأما الشيء الذي حققت فيه بعض التقدم، فهي العزيمة على تطويق (محاولة) ذلك النسيان، بله الدخول في كثافة ذلك النسيان، الدخول في ليله. أن أدخله متكلماً. فأصير نتقدم بكيفية غير متوقعة. ولقد تنبهت إلى أن النسيان يدخلني غرابة غير طبيعية، ويدخلني قوة للنسيان. وما هو بالأمر السيئ في حد ذاته، لكن لكي يحمل المرء مثل هذا الثقل، يحسن به أن يكون يمتلك القوة، وأن تتوفر له الكفاءة التي تؤهله لأن يقدر المخاطر الكبيرة (هيام، جنون). وأن يحصي المرء ما لايحصى معناه أن يقف في وجه الهاوية. لكن هذه الأمور كلها لا تزال تبدو لي شديدة العمومية (غير تصوُّرية)، وفاقدة لأي أساس. ستزداد عزلة هذه الرسالة (فكرت، مرة أخرى، في تلك الرسائل المنعزلة في القرآن. إنها حاضرة ههنا، من غير أن نعود إلى النص؛ وتلك حيلة، ومكر من ذلك الإله). هل ترغب في مقال لاغاش؟ يمكنك أن تجده ضمن أعماله الكاملة الصادرة حديثاً، في المجلد الخامس، إن لم تخني الذاكرة. أي صلة تقوم بين هذا المقال و»التمزيق اللذيذ»؟ إن في هذا السياق، سياق مسألة الازدواجية اللغوية في مسألة اللاوعي، باعتبار الأمر يتعلق، بطبيعة الحال، بالترجمة. وأراني، ههنا، مضطراً إلى أن أحيلك على قصتي «عشق اللسانين»، التي لم تنشر بعد، فهي تتناول، على طريقتها، هذه المسألة. وأما في الوقت الحالي، فليس لي ما أَضيف. بكل ود ع. الخطيبي باريس، 1 ماي 1982 عزيزي الخطيبي، أعيد، هذا الصباح، قراءة رسالتك؛ فأقع فيها على جملة تقول : «هذه الرسالة ستكون وحيدة، ضائعة». فأراني، من ثم، أحلم برسالة تكون تندفع في الأثير، وتستخف بالضفاف. وقد لا يلتقطها غير أولئك الذين يمشون من غير أن ينظروا إلى أقدامهم. التقاط من مجرد نظرة. فمن ذا الذي قد يجرؤ، بعدئذ، أن يقول : على هذا النحو أرسمها. وهذا ما رأيت؟ إلا أن يظن نفسه نبياً، أو مجنوناً. لكن من الرسائل ما لا يضيع عند الناس جميعاً. فلسوف يقيض لها من يتلقاها، ويترك لها أن تعالجه. إلى حد أن يصير وقد تغير أحوالاً بفعل تلك الرسائل. ولربما كان فكر هذه الرسائل، ذلك الفكر الملتبس، والعمل الذي تقوم به، يضطلعان بوظيفة إقامة مصالحة بين الأماكن الباذخة التي تطاق. ولربما ههنا يكشف النسيان بقوة المعاناة/الابتهاج اللذين يرافقانه. إن النسيان يرفع الجبال. وأما أنا... فماذا أعطيت للكتابة؟ يساورني، في بعض الأحيان، شعورٌ أنني لم أعطها كفاية. لكنني أزعم أنني أحببتها كما يمكننا أن نحب امرأة. في إطار من الاعتراف المتجدد على الدوام. وفي إطار من استحالة الوصول إلى الإشباع وإلى الاكتفاء. وسأختم رسالتي. لكن، قبل ذلك، أود أن أقص عليك واحداً من أكبر أفراحي خلال هذه الأيام الأخيرة. إن بعض الأصدقاء نزلوا عندي، لكي «يهنئوني باستعادة سيناء». وقد كان هذا الفعل حافلاً بالكثير من السذاجة. غير أنني استمتعت به كثيراً. لقد احتُفيَ بالمصري. هذه الرسالة ستستبقك إلى الرباط. وستلبث هناك تتجرع الانتظار، إلى حين عودتك. وساراك، قبلها، في باريس. هذه المرة، أتوقف. فأنا مضطر للذهاب للإفطار لدى بوتور، الذي قيض لي بفضلك أن ألتقيته. وإنني أتعجل أن أقرأ كتابك «عشق اللسانين». أحييك جاك حسون بطاقة بريدية : نيويورك، 6 ماي 1982 تلاقيات جديدة مع نيو يورك ? وجولات طويلة. ينبغي للمرء ههنا أن يكثر من المشي، لكي يأخذ له مكاناً، وموقعاً يُستدل به عليه. الهرهورة، 15 يونيو 1982 عزيزي حسون، إنني أقول في نفسي : ينبغي أن أواصل الكتابة، وأجيب، ولربما من غير هدف نهائي. أو يكون قانون الكتابة (الكتابات) هو ذلك الجني، ذلك النافخ، الذي بودي لو أحصي عليه حدوده وتوقفاته، وانفكاكاته، فيكون مقياسي الوحيد هو الفرح بقول كل شيء. لكنني أنسى ذلك، وإلا لكانت القراءة شيئاً مخيفاً. وإنها لكذلك. وألا نتوقف، وأن نبقي على النسيان ساطعاً وضاء : أن ننسى أننا ننسى، معناه أن نشرع في الكلام بلا نهاية. إنني أفكر كثيراً في ما قلت عن الحب، عن الحب، حب امرأة، وحب الكتابة. وهما، كما قلت، نظيران : الواحد مثل الآخر. وهذا كلام جعلني أحلم، ولك أن تتخيل... السبت 19 يونيو : توقفت يدي. وفي تلك الأثناء وقع اجتياح لبنان من طرف إسرائيل. إنه حدث هز كياني، كفعله بك أنت أيضاً دون شك، لكنه يبدو لي ذا منطق قاس لا يرحم : فأنا مقتنع بأن التدمير الذاتي (من غير أن أحلل تحولاته) الذي تقوم به الصهيونية، باعتبارها إديولوجية للدولة المسلحة، أمر سيتواصل، وأن الحسابات، والاستراتيجيات والتقانيات ستتكفل بقياس خسائره (ونجاحاته أيضاً)، وهذا أمر يدخل في السياسة الدولية. اللامعقول، نعم، القتل، نعم، الاغتيال المحتوم وفقاً لهذا المنطق : لقد نشأ بنشوء هذه الدولة بالقوة وإقصاء الآخر. لكن يبدو لي أن ذلك التدمير الذاتي من الصهيونية يمضي، من جهة، نحو تجذير الانقسامات، والتمزقات التي تعتور وعي المرء أن يكون يهودياً اليوم، وتمضي، من جهة أخرى، نحو تكوين الشعب الفلسطيني، أو المساهمة في تكوينه. وهذه أمور كلها شديدة تعقيد. ومع ذلك، فإن خطوط القوة توجد منذ أن تأسست دولة إسرائيل... إن ثمة الكثير من التكرارات، والكثير من العودات، والكثير من التدمير، من شأنها أن تعيق إسرائيل أن تظل قائمة على صعيد إرادة القوة. فماذا تريد إسرائيل؟ أتريد الأرض؟ إنها تملك الأرض. أو تريد اسماً؟ إنها تملك اسماً. أم تريد اعترافاً؟ لقد حازت الاعتراف. وباسم هذا الاعتراف تراها، اليوم، تتوسع إلى ما يتجاوز حدودها (حدود وجودها). تريد أن توسع من دائرة الرعب (من حول الأرض، والاسم، والهوية المطلقة لكون المرء يهودياً مطلقاً)، وتدفع العرب إلى نقطة اللاعودة. وإنه لأمر رهيب! غير أنني لا ألقي بالمسؤولية على إسرائيل وحدها (إسرائيل الصهاينة)، بل ألقيها، كذلك، على استسلام الدول العربية، العاجزة عن مواجهة هذا الوضع، وعن تحميل الفلسطينيين واليهود مسؤولية الاعتراف المشترك. إنه ثمة شعبين، واسمين، وإرادتين للقوة (غير مكتافئتين)؛ والتدمير مقرون بهذه الأنداد. لست بالمذعن ولا «القدري» بإزاء ذلك المصير الثقيل المتعذر حمله، لكن ههنا مكمن البلاء، وسوف يمضي إلى مداه. وهذا يذكرني بالأسطورة التوراتية القديمة، أسطورة القيامة، التي يعيشها الإيرانيون، اليوم، بطريقتهم الخاصة، في صورة انبعاث. إنني أتحسب للأسوإ في هذه اللحظات من العماء المبين والاحتقار الماحق ينزل بالمنهزمين. يتعين علينا أن ننسى الأموات، فالانتقام (مباشراً أو ملتوياً) ينغرس على الدوام في الذاكرة. والضغينة تكبر في نهاية هذا القرن، ويا لها من مغامرة مشؤومة! وأفكر، كذلك، أن ازدواجية أخرى تسكن هذا النوع من الصهيوني العسكري : ذلك الذي يحسب نفسه أمريكياً، وطالما ظلت القوة الأمريكية في تقدم، سيصير هذا الصهيوني يتوهم أنه اليد اليمنى للإله الحي. لقد غرقت الآلهة القديمة، ومن السخف والتفاهة أن نتحدث في الوقت الحاضر عن قدس إبراهيمية وقابلة للتوحيد من حول تلك الصلاة المقامة للغائب. إن الإله الرعب، والإله الاستراتيجية، والإله التقانة، وسائر أولئك الجن الصغار الذين يشكلون خريطة الشرق الأوسط ويفككونها. وذلك ما ينبغي، كذلك، تحليله، من أجل ألا نرجع القهقرى إلى طفولة الأديان، وإلى التغني باللقيات التي لم تتسن ملاقاتها أبداً. قرأت الصحف الفرنسية. ويبدو أن بعض القرائن (الإدانات، والعرائض، والبيانات) تشير جدياً إلى المسافة التي صار اليهود يتخذونها بتوالي الأيام من الصهيونية. إن الأمر يحتاج إلى شجاعة. ولن نعدمها. لقد قرأت توقيعك؛ إنه علامة تؤكد معنى بحثك الشخصي. لن يرتفع فجر صاف تماماً، لكن، كذلك، ليس من ليل يكون أسود كلياً. إنها إشارات إلى أولئك الذين يريدون أن يعيشوا، ويتركوا للآخرين أن يكبروا. لك مودتي ع. الخطيبي باريس، 27 يونيو 1982 عزيزي الخطيبي، لقد حاولنا عبثاً أن نعرف، وحاولنا عبثاً أن نتجاهل، أن الدناءة والبشاعة الفائقة يمكنهما أن يتخذا مظاهر غريبة، ويستعيرا أقنعة على شيء غير قليل من الحذق والمهارة ليظهرا بها. فهنا يقتلان، وهنالك يلغيان الذكاء. إن هذه الحرب التي استطالت منذ ستة عشر يوماً (منذ خمسة وثلاثين عاماً؟) تنحط بالدال اليهودي. وقد كنت قلت في حديث أدليت به إلى صحيفة «صن فرونتيير» وإلى «راديو صولاي كوت دور»، إن هذا الدال قد وقع عليه التمزيق. وليس بمقدورنا، بأي حال، أن نلملم أطراف ما تمزق ونعيد لحمه، ونصيره إلى رموز - بالمعني الاشتقاقي للكلمة. فهذه الهاوية لا يمكننا أن نتداركها بشيء في الوقت الحالي. إلا أن نصرخ بتقززنا وسخطنا منها. وأما ما أراه شيئاً مستعجلاً؛ فهو أن نعيد قراءة النصوص التي كتبت في زمن حدائق الأندلس، وفي زمن الفاطميين، وفي زمن المدن التجارية القائمة على الدانوب، ومقابلتها بالزمن الحاضر. يتحدث الأستاذ ليبوفيتس من القدس عن إسرائيل-النازية. وهذه العبارة المغالية ستستثير غير قليل من الناس. غير قليل من أولئك المثقفين الذي يبدو أنهم نسوا السلسلة الطويلة من الإبادات الجماعية التي طالت هنود أمريكا، وزنوج إفريقيا، وأرمينيي تركيا. ولا يمكن لأحد أن يسعد بأن كان ضحية لإبادة جماعية، والضحية الوحيدة لإبادة جماعية، ولو كانت في مثل فظاعة الإبادة الجماعية التي أوقعتها الهتلريبة على اليهود، مثلما وقعت على الغجر وعلى السلافيين. لكن كذلك، من يجرؤ أن يقول إن النزعة الكليانية هي الشيء الوحيد الذي حوفظ عليه؟ فهل انتهى الزمن إلى التوقف؟ وإلى أن يوقف الساعات، ويلقي بالماء الذي كان مخزناً في الصهاريج، كما في لحظة الحداد، وإلى أن يتوقف ليتفكر، وليقوم بوقفة؟ ربما. لكن في وقت لاحق. في وقت لاحق. وأما في الوقت الحالي، فإن ثمة حرباً تنذر بالاستمرار إلى الأبد. إن ثمة أرضاً تلفظ قطانها. وثمة هجرة عادت تتجدد مرة أخرى. لكن في صورة محرفة. تحدث فيكتور سيرج عن منتصف ليل هذا القرن : الوقت صفر؛ لكن موشوم بوعد الفجر... وأما من جهتي، فإن لدي إحساساً حاداً بزمن يتوقف، زمن تتزايد فيه علينا صعوبة الحفاظ على ذاتيتنا. مقابل كل عربي يموت في هذه الحرب، يختفي حي، وينطفئ أمل، وتتلاشى صفحة من التاريخ. وهذا الإلغاء للآخر، هو، كذلك، إلغاء للتوراة، الذي ينتسب إليها القتلة المستأجَرون الجدد. البعض لا يزالون على عماهم يستشهدون ب «كتاب التعاليم». ولربما يصير بمقدورنا، بعد لأي، على غرار أنطونان آرتو، أن نصرخ بنهاية حكم الله، من أجل أن يتسنى لتلك الشخصية الإلهية التي كانت (لنا) مخرجاً مسرحياً كبيراً أن تلتحق بمخزن الملابس، والأقنعة الاحتفالية، ومجموعة أسلحة رعاة البقر أو ربابنة البي 52. إن بعض الإسرائيليين يتصورون أنفسهم شمشونات عمياً. لا يعيشون إلا بتقتير شديد ما قد أصبت كثيراً أن سميته متعتهم. وأما من جهتي، فإن أكثر ما يقلني هو أن يؤول التنافر وعدم التوافق القائم بين اليهود والعرب إلى شيء يتعذر تداركه أو علاجه. فكيف، وأي جنون، وأي عماء سياسي تردى بنا إلى هذه الوضعية؟ إنه لغز. بحاجة إلى تحليل. حقاً إن «كتاب الصور» الذي قدم إلينا قد تولاه ملفقون ومزيفون قد سعوا، خلال هذه السنوات الأخيرة، في أن يملأوا باستهلالاتهم ومقدماتهم آلات الإ بي إم والأسلحة المتطورة. إن الخروج عما هو ديني معناه، اليوم، استعادة إمكانية تهجي كذب السياسة، وكذب الهويات التعزيمية. من أجل استعادة بعض الحقائق البسيطة على الدوام. حقيقة الذات. وحقيقة شعب له الحق في أن يحيا على الأرض. والرعب من : «ابتعد عن هذا المكان، لأنزل أنا فيه، وأنزل ذباباتي». إن هذه الرسالة تتمتم بسخطي وغضبي، اللذين لا أحصر نفسي فيهما. ذلك بأني أرفع العرائض، وأتحدث إلى الإذاعات، وأطلق البيانات. لكن يبقى أن هذا الغضب شيء لا ينفد. وهو يمنعني أن أقرأ أو أكتب. كيف نكتب، ومن أي مكان، ينبغي أن نعيد ابتكاره، يمكنني أن أكتب حكايتي عن الإسكندرية؟ وكيف أتذكر ما لم يحدث في خضم من تتالي البلاغات العسكرية؟ وماذا لو أن أصل الكلمة قد صار، هو نفسه، من ذلك إلى تمزق؟ فماذا يبقى؟ إن لي حنيناً كبيراً إلى الرباط. وإلى تلك الأوقات التي قضيتها فيها وإياك. وآمل أن أقرأ لك عن قريب. وأن أراك. طابت أوقاتك. جاك حسون حاشية : كيف يشتغل النسيان؟ لقد صرت، منذ 1948، أدرك أن إسرائيل دولة، لامجموعة. ومع ذلك، فإنك تراني، في خضم البعثات العسكرية [الإسرائيلية]، أميل إلى أن أنسى القوة المطلقة لداعي المصلحة، وأعتصم بمثالية كلاسية مبهمة. 29 أكتوبر 1982 عزيز عبد الكبير، لقد حاولت، في بعض الأحيان، أن أتصل بك خلال مقامك في باريس، فما أفلحتُ. ولقد أسفت للأمر كثيراً. إن ذلك اللقاء مع سيرتو، ذات مساء، في بداية الخريف، يختزن لي الحرارة الودية للالتقاءات الأخوية. لكني رجل ميلادي. لذلك، كنت أتمنى في ذلك الصباح الغائم من شهر أكتوبر، بعد ليلة قصُرت بفعل حلم غريب، رأيت فيه القاهرة، ولندن، ونيويورك، وباريس، والرباطوالإسكندرية، وقد صارت أحياء في مدينة واحدة، أن أحتفل بلقائي الأول بالمغرب. وسيقيض لي أن أكتب إليك من جديد. وكذلك، سأقرأ لك بمتعة. طابت أوقاتك جاك حسون السبت مساء 6 نونبر 1982 عزيزي الخطيبي، إنني مبتهج أن أراك مرة أخرى في شهر دجنبر. ولربما يكون أطول من اللقاء الأخير : ذلك ما أؤمل. ليس هنالك ما يدعو إلى العجلة (وإلا فالقليل من الأمور)، كما قلت، ما عدا أن نحب بصيغة المضارع. صيغة ظللت أسمعها وقتاً طويلاً، ومنذئذ وهي لا تفتأ تشغلني... أن نحب بصيغة المضارع... أعتقد أن العالم يموت من استحالة أن يحب بصيغة المضارع. لكن ينبغي أن نجرؤ على التخلي عن قنبلة أوهام المستقبل وارتكاسات الماضي. طابت أوقاتك جاك حسون يناير 1983 عزيز الخطيبي، أمضيت بضعة أيام في البندقية، التي سحرتني بكل شيء فيها. فقد رأيت فيها بعض العائدين (آحر سلالة أباطرة بيزنطة : كلا! فما أنا بالمتهلس، على الرغم من أن عرضهم كان مهلسة)، فوعيت بحبي المتعدد للبقايا. وسوف نعود بالحديث إلى هذا الأمر. في انتظار أن أقرأ لك عن قريب جاك حسون 1