1- برحيله يكون جزء أصيل من ذاكرة نضال أقصى اليسار بالمغرب، قد خبى.. فالرجل، كان من طينة الناس التي لا تتاجر في المبادئ، ولا تتخاصم قط مع نفسها في اليقين، أن الوجود شجرة صفصاف عالية، لا تنحني ولا تلين.. قوته كانت، في صمته الحكيم، الذي جعله دوما يتأمل الأحداث والشخوص، بكثير من الشفقة ومن التهكم العميق، كونه كان يرى أمام عينيه، كيف يعبر بعضهم الإمتحانات ( رفاق الأمس ) وهم زاحفون على البطون. وأدرك عميقا، أنه فعليا: « المثقف هو الحيوان الوحيد الذي يعرف كيف يبرر أخطاءه ».. لقد ظل، مع رفيقه الآخر، عبد اللطيف الدرقاوي ( ذلك الطائر الناذر الآخر، المهاجر إلى باريس لجبر أطرافه التي أصابها حزن الأيام، بعد رحلة عذابات الهمجية التي عبرت جسده في أقبية درب مولاي الشريف ). ظل من الطيور النادرة التي لم تصب حبال تغريدها بالعطب. وظل حاملا ألمه الخاص، أمام تبدل الزمن والناس، إلى أن جرفه المرض، الذي له عناوين الحزن العميق، الصامت، الذي لا يئن ولا يبوح،، ذاك الذي يكون قاتلا لكل طير حر.. وليس اعتباطا، أنه من القلائل الذين رفضوا مبدأ التعويض المالي لجبر الضرر، مما لحقه من تعذيب على مدى سنوات بأقبية المعتقلات والسجون. وكان أن ركب سفينة واحدة من أشد المهن أكلا لأبنائها ( وأكثرها نكرانا للجميل في بلد مثل المغرب )، وهي الصحافة. في الأول، كانت مجلة « أنفاس » قبل الإعتقال، ثم « العلم » ووكالة الأنباء الفرنسية « أ.ف.ب. » بعد الإعتقال. المهنة التي جعلته متصالحا مع حلمه أن يقول ما يريد بأكبر قدر من الحرية. وكانت له أياد بيضاء كثيرة في العديد من الملفات الساخنة، التي لا يقربها بيقين، غير صاحب قلب سليم، مؤمن بما يقوم به. عبدالفتاح الفاكهاني ( كنت دوما أحب اسمه، لأن له علاقة بمن يهيئ طابقا طازجا للفاكهة، أي بائع الفواكه، وهذا النوع من الناس يكون مبدعا بالسليقة )، برحيله يخسر المغرب الحقوقي والسياسي والإعلامي اسما نظيفا، في الآن نفسه الذي ربح هو نفسه أمام ديمومة الأبد، لأنه لم يخدل مبادئه قط، ولا أساء لرصيده النظيف في الفعل الإنساني، منذ رأى النور بمراكش، متأملا والده الفقيه يؤم الناس في الصلاة، والذي لم تكن لم من سلطة غير سلطته الرمزية التي نحتها بالجليل من الأفعال في حياته اليومية. كان الأب المثال، وصار الإبن المثال أيضا، حتى وإن اختلفت السياقات ومسارات مكر التاريخ. لقد كان ابن الزاوية، واكتسب مكرمتها في الوفاء والرزانة واللسان العفيف. ولعل من أجمل ما في الراحل أن لسانه لم يكن ينزلق قط إلى السفيه من الكلام، سواء اتجاه الخصوم أو اتجاه الذات والرفاق، حتى وإن تبدلوا كثيرا، وصار بعضهم « تجار كلام ». وحين كنت أنجز رفقة الزميل الصافي الناصري، تلك المادة الصحفية التوثيقية الخاصة بتجربة « أقصى اليسار » في المغرب، والتي ستصدر في ما بعد، في كتاب ببيروت تحت عنوان « أقصى اليسار بالمغرب.. مقارعة نبيلة للمستحيل »، كان الإتصال به يسيرا، وكان التواصل معه غنيا، كونه قدم مقاربة مختلفة في بعدها الإنساني، وفي صراحتها الأخلاقية، وفي تواضع العارف فيها. لم يكن الرجل مدعيا، ولا كان يكذب على نفسه قط.. كان عبد الفتاح الفاكهاني، وسيظل عبد الفتاح الفاكهاني، الذي لن يفخر به ابنه أنس فقط، بل ذاكرة الأيام التي لا تنسى أبناءها الطيبين.. رحم الله الفاكهاني.. كان زميلا.. كان نظيفا.. كان رجلا.. والأهم أنه كان إنسانا.. 2- لا يمكن للمتتبع السياسي والإعلامي، أن لا يتوقف طويلا، أمام المسار الذي تأخده الأحداث والتطورات في إيران بعد الإعلان المتسرع لإعلان فوز أحمدي نجاد.. وأساسا أمام التطورات التي تطال المجال الإعلامي والصحفي.. فكما لو أن البلد، بدأت تنزلق بسرعة هائلة صوب ديكتاتورية خطيرة، كونها ديكتاتورية تيوقراطية دينية. ولعل المثير في تلك الأحداث، أن أول ما قامت به السلطة الحاكمة، هو أنها أطفأت نور المعلومة، وأخرست أقلام الصحف، وبدأت تهيئ لصوت إعلامي وحيد، أشبه بالبيانات العسكرية. ورغم سطوة المخابرات وسطوة بعض رجال الدين، لم يفلحوا قط في أن يحجبوا الحقيقة عن العالم، لأن التطور التكنولوجي اليوم جعل المعادلات تختلف، وأنه من المستحيل حجب الحقيقة أو تكييفها والكذب على الذات وعلى الآخرين فيها. لقد لعبت الأنترنيت الدور الحاسم في المعركة المفتوحة حتى الآن بإيران، حيث أصبحت مواقع « اليوتوب » و « الفايسبوك »، في مقدمة المعركة التي تنير الطريق للإصلاحيين وللغالبية من الإيرانيين، الذين قرروا بشجاعة نادرة أن يواصلوا النزول إلى الشارع للتظاهر سلميا ضد القبح والديكتارتورية الجديدة، الأفضع في ملامحها وسلوكاتها من « سافاك » الشاه. والأكيد، أن هذه المعركة الإعلامية التواصلية، سوف تخلق أبطالها في طهران وتبريز وقم وأصفهان، لأن اليد حاملة الكاميرا التي تنقل الأحداث بتفصيل إلى العالم، يد شجاعة حقا. خاصة وأنها جعلت العالم يكتشف أن الشارع الإيراني، عاد ليطلق أدعية الدعاء إلى الرب في السماء، إلى العادل الأبدي، إلى الحق، في أن ينصف أبناء إيران الطيبين الذين يحاولون منذ أكثر من قرن ونصف من الزمان أن ينهضوا لأجل استحقاق التقدم والحرية والنماء.. كانت البداية في مواجهة روسيا القيصرية والتاج البريطاني والملك الفاسد ( أواخر القرن 19 )، ثم تواصل مع اكتشاف ثروة البترول وثورة مصدق التي أسقطتها المخابرات الأمريكية ( أواسط القرن العشرين )، وبلغ مداه مع ما أسمي ب « الثورة الخمينية الإسلامية » التي أسقطت الشاه، رغم كل الترسانة الحمائية للمخابرات الخارجية ( الموساد والسي. أي. إيه. )، سنة 1979.. وفي كل لحظة للمعارك الفاصلة، كان الإعلام في قلب الحدث. واليوم، ها نحن أمام مشتل جديد لتجربة الصراع بين الصراع السياسي والصراع الإعلامي، ودور الصحافة في حسم المعركة. إن الخاسر رمزيا اليوم، على مستوى القيم هو السلطة الحاكمة في طهران، سلطة المرشد العام وسلطة الرئيس المطعون في نزاهة انتخابه، التي هي في خصومة مع جزء كبير من الشارع الإيراني. والمعركة في بداياتها، لكنها لحظة تأسيسية أخرى لشئ جديد قادم هناك في بلاد فارس..