في إطار مهرجان الحدائق الذي يقام بمراكش في دورة ثانية ابتداء من اليوم وإلى غاية 13 من الشهر الجاري، يقيم الفنان التشكيلي بوشعيب هبولي بالمعهد الثقافي الفرنسي معرضا تشكيليا يحتفي فيه بالورد والطير على السواء، في تناسقية لونية قل أن جسدتها إبداعاته.. يستمر معرض هبولي إلى غاية العاشر من الشهر القادم ويصاحب المعرض تجربة في الحلي تحمل رمزية الطائر وستعرض في 12 نموذجا. في كلمة عن المعرض يحاول الروائي والناقد الجمالي «إدمون عمران المليح» أن يقترب من تجربة هبولي حيث يكتب: تعرف مراكش تقليدا جميلا يتمثل في تربية الطيور وتلقينها تغاريدها الخاصة، هذا الفن الجميل ما يزال مستمرا إلى اليوم في هذه المدينة. بطبيعة الحال فإن بوشعيب الهبولي ليس مربي طيور، هذا نعرفه جيدا، منذ زمن وحتى الآن، لكن هذا الحكيم الأزموري، والذي لا أعرف تسمية أليق له من هذا الاسم، سيفاجئنا من جديد، إنه ومن أجل إمتاعنا يمنح حياة جديدة للطيور، بحيث نظن أنه يكلمها وأنه يناولها «زوان» متخيله، مغنيا نظره في تحليقة مجنونة وبديعة لغرافيكية طائرة. ويمضي إدمون في وضع الأصبع على العمل التكويني البديع لهذا الفنان الكبير، المغرم بالوجوه، حيث يحلل رمزية الطير عندما يقول: الطير يعني هذه الحرية الخالصة حين يكون هو رمز الهروب من قفص النزعة التصويرية. طيور هبولي تذكرنا بالشاعر الفارسي والمتصوف الكبير فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير»، وهذا لا يعني أن هبولي قد وجد مصدرا ملهما لأعماله أو أنه تخلى عن تلقائيته المعهودة في الرسم، ولكن، بالفعل، إنه طقس خاص، ذاك الذي ندخل من خلاله إلى عالم الطير، وهبولي لا يقف عند هذه الحدود بل يجعل طيوره تستلقي في خلفية أزهار منتقاة. كل لوحة من لوحاته تولد اللذة الحارة المبحرة في كتلة من الألوان الحية، الحانية، بكثير من الرشاقة. وعن هذه التجربة الجديدة لهبولي يقول عمران المليح: إنها المرة الأولى التي أتمكن فيها من رؤية هبولي وهو يلهث خلف اللون. ملاح قديم اشتغل هبولي سابقا على «الملامح» والوجوه. ومن عزلته بمدينة أزمور، حيث محضن ذاكرته، هندس العزلة والظلال والألوان الغامقة، محاولا القبض على الأمكنة وعلى أزمنتها النفسية. ومنذ معرضه الفردي الأول سنة 1970، عمل بصبر على «خلق» ألوانه الخاصة من مختبره المفتوح على الطبيعة، فهناك الطين من جهة وتدرجاته اللونية وهناك مسحوق قشرة الجوز، وما تمنح من إمكانات لونية لا توفرها الصباغة الحديثة. وكأن الرسام هنا يتحول إلى مقطر للألوان مثل صانع العطور، له تماما مزجاته السحرية التي لا يذاع لها سر، إنه أمبريقي يطل على الأزمنة الحديثة بوجهه المنحوت الصلد، الشبيه بصخرة الوجود الأولى. كأن أزمور اخترعته على شاكلته الخاصة دون أن تمنح للفن المغربي الولود إمكانية أن يتكرر أو يتشابه أو يعاد. الحديث إلى بوشعيب هبولي هو حديث إلى فنان مرح، متفائل، حائر، حرون، حاد، محتفل بالحياة، على غير ما تشي به أعماله وتخطيطاته وهندسته للوجوه والعلامات والأمكنة البعيدة عن اليد في لوحة يرين عليها الصمت ويتنازعها الشك، لوحة تقرع صنوج السائد على غير العادة، وتقول لك: هنا لا مجال لليقين وعليك أن تدرب بصريتك كي تحدس العمق الفني الثاوي في صباغته ولونيته المنحازة، هي تدل عليه وهو يدل عليها. يتميز هبولي بسخرية «أليفة» من هجوم الأشياء على العالم وعلى حياة الناس وبالأخص حياة المغاربة التي كانت إلى زمن قريب وديعة وأليفة، لكنها الآن غطست في ألوان من البهرجة ومن الافتعال، وناطحت الموضة حتى أصبحت بدون مذاق. يسخر هبولي من الكائن المغربي الجديد المعلب في رقع العولمة، في بيئة معمارية لا علاقة لها بالتاريخ المغربي ولا بالهوية المحلية، البنايات الجديدة غطت على معمارية المدينة العتيقة والبيت المغربي، والشقق الحديثة المنمطة على الشكل الهندسي الأوروبي أضاعت الكثير من الدعة التي كانت. لا يكف هبولي عن إنتاج سخريته اليومية من هذه المظاهر المستجدة في حياة المغاربة، يعتقد جازما أن المدينة المغربية إذا سارت في هذا الاتجاه فإن النتيجة على المخيال وعلى الذاكرة الجمعية ستكون كارثية. بإمكانك أن تفهم وجهة نظر هذا الفنان الذي لم يكن في حاجة إلى «ديبلوم» في الرسم كي يعلن عن نفسه منذ مغرب سنوات الرصاص إلى الآن، بإمكانك أن تستوعب رأيه الفني دونما حاجة إلى ترسانة مفاهيم أو إلى فذلكة أو حذاقة غير موفقة، غالبا ما يعشقها بعض نقاد الفن، الذين يرون في الممارسة الفنية مجرد تروس بأسنان حادة. يعتبر هبولي نفسه مغربيا «أصيلا»، ولا نعرف ماذا يعني ب«الأصيل»، وأعتقد أن المعنى المقصود قريب إلى حد ما من التعبير الدارج في اللهجة المغربية حينما تنعت شخصا ما بأنه «أصيلي» أي تعني «أصيل» لكن بكثافة وزخم قويين، فالأصيلي لا «يكشف» أي لا يتغير، وذلك هو بوشعيب «الهبولي» بالألف واللام، رجل «أصيلي ماكايكشفش»، شبيه إلى حد كبير بأعماله الفنية التي لا «تكشف حتى هي»، أعمال أصيلة، تجعله نسيجا وحده في المشهد التشكيلي المغربي المتعدد. المرسم السري كيف يعيش الهبولي في مرسمه؟ هذا هو المفصل الأهم في حياة هذا الفنان المتفرغ كليا إلى عمله وفنه، في عزلته المبدعة.. لا شك أن له حديثا آخر مع الأصباغ والمواد والتخريجات الفنية وتنويعاته التي اشتغل عليها منذ حبرياته إلى طيوره وأزهاره في المعرض الأخير في مراكش. وأما أزمور فمقيمة في الفؤاد لا تبارحه، المكان هو المكان، والأصوات هي الأصوات تشرق كل يوم مثل شمس مغسولة في عيني الرسام.