بياض أول. رن الهاتف المحمول بصوت الميساج الخاطف. سحبه بسرعة من جيب معطفه. حمل شاشته إلى عينيه المتطلعتين. اطمأن للمفاجأة حين شفت صفحتها المضيئة عن رمز اسم صديقته. كانت صلته بها قد انقطعت منذ زمن، لكنه ظل يتوقع عودتها إليه. وها الذهول يغمره وهو يطالع ميساجها الدارج مصوغا بحروف لاتينية: rani tzawajt o ra kan tmnna lik tan ta hadd saiid . استغرقه الذهول وساح في غيابه، حتى إنه ظل سادرا، لا يدري ، من تخفف أم من ثقل ؟ من صخب أم من هدوء ؟ من قطع الفصم أم من فساحة الانفصال؟ لاحقا، تخايلت له قد انسحبت عنه بعيدا، بعيدا ، جرها هبوب ريح عاتية إلى مدى من صقيع وضباب. تخايلت له كذلك وهي تنسحب بحركة بطيئة، خفيفة،إلى وجهة مضيئة، يعلو وجهها بسمة وداع خافتة، وهي تشيعه بإشارة من يدها تومئ كالمعتذرة. فيما تخيل نفسه على حافة جرف هائل، قدماه تهتزان، ويداه ترسمان على الهواء توازنا مختلا، تحذران الانزلاق إلى هوة تنذر بزواله.. لاحقا أيضا، حين ركب رقم هاتفها المحمول ليهنئها على زواجها، يصطنع التسامي على أساه،، جاءه صوتها مفعما بالصواب والاطمئنان، مشبعا بتحقق كان سلفا حائلا دونه. أدرك حينئذ أنها لم تعد هي، كانت تخاطبه من نأي، نأي الانكفاء عن المخاطرة، قال، ألم يكن ضياعها لو أمعنت فيه، ثلمتها التي ستجذبها إلى بعد لن يعيد الآن بعد أن انكفأت ، لم تعد تتلامح جسدا، حضورا لجبا، صبوة حميئة، صارت تتماثل له لونا، لونا أبيض، يعشيه بهره. لاحقا أيضا، حين صادفها في الشارع صحبة أختها الصغيرة التي خبر شقاوتها، لم يرها. ليست عيناه من رأتاها، برغم مثولها أمامه بوجهها الأليف مضرجا بحمرة تلمع بفارقها بشرتها الصقيلة، بحركة مشيها السريعة المتعطفة قليلا، بقامتها المتوسطة المكتضة بسمك ردفيها، واندفاع نهديها. هي أيضا لم تره برغم أن عينيها مرتا عليه للحظة. تأكد حينئذ أنهما صارا لبعضيهما بياضا. * بياض ثان انبثق من نصوعه صديقه الذي كان يتوارى ببطء خلف صورته. كان فيروس الكبد ينهشه، يستنفذه، يعتم بيان ملامحه، يفل عزمه المأثور على المقارعة وخوض حرب ضد الجميع (ما كاين غير la guerre ،كان يقول)، يقتطع شرائحه الحية، يضع مكانها أخرى دكناء، مصمتة، بلا ملامح؛ لم يعد يقوى على نصب قامته الفارعة بسموق، كأنها لم تعد تسمو على جاذبية الأرض، صارت هيكلا يتهادى ذاويا، منحنيا على ممرات الشارع الطويل. ينظر من عينيه اللتين أضحتا مغارتين، إلى الموت المقيم الآن في انتظاره يحدجه ، هو الآخر، بعينين ثابتتين، واثقتين، فصيحتين، لا ترفان. حين كان يلقاه عرضا في رحلة مرضه الطويل، كان يشعر أن الموت من يخاطب، من كان يجيبه ما بقى قد ما فات، أن الهدد من كان ينصحه الصحة هي كلشي، كان يختصر لقاءاته به، يغادره بسرعة، يعلم أن صديقه صار موتا شاخصا. حين شيعه إلى مدينته الجبلية، وقف بعيدا عن الحفرة التي سجي فيها جسده، أدرك أن أطوار موته لن تجري أبدا تحت التراب الذي طمره، ما دامت جرت عيانا أمامه. معه لم يعد الموت غموضا، أو سرا تكتمه جدران القبر، كان موتا جهيرا، سافرا، كان جسدا تحلل أمام عينيه. * بياض ثالث بخلاف جثمان خاله الذي كان مسجى على خشبة غسل الموتى. حين دخل إلى الغرفة ليطبع على جبينه قبلة الوداع ، مثل له جسده الممدود، الملفوف في الكفن، عفيا، مكتنزا حد الفيض بعرامته الحية. كأن الموت الذي ارتاب للحظة في حدوثه، لم يفته أو يمحله. هدوؤه المعتاد يرنو على وجهه الغافي، مشمولا بطيبته الحانية، بسماحته التي تظلل أهدابه، ترنو على جبينه، تمسح عينيه بسكون النوم. بعد أن قبله، لم تنطبع أبدا في عينيه صورته ميتا، كان موقنا أنه ودعه حيا ما زال. فيما عيناه ارتدتا إليه كأنما بوقع الصفع، حين ولج الغرفة ليطبع قبلة وداع أخيرة على جبين خاله الآخر. كان وجهه من جهته اليمنى شائها، كأنه مثلوم بندبة غائرة. بدا أنه رحل بقسوة الانتزاع، بسطوة النهب. ضوء النهار الذي كان يغمر الغرفة أبدى الموت شوها باهرا؛ الأثاث غير المرتب في الغرفة، الأفرشة الملقاة عرضا على جنباتها، أبداه أيضا مزقة وبعثرة. سيصير الموت لاحقا، وهو يمضي خلف النعش وسط جمع المشيعين خلال الأزقة، أتربة وأحجارا متناثرة وروائح نتنة تنبعث من جنبات الدروب، من ركام النفايات، من عطن البراز. سيصير أيضا ضربة شمس موجعة، تربض، عمودية، قاسية على رأسه الذي أضحى مرجلا يغلي في المقبرة المزدحمة بالموتى. * بياض رابع البياض يعشي عينيه، يفركهما علهما يستبطنان لونا غيره، لكن الأبيض يستميت، يعيد إليه صورتها، يبتسم وهي تردد أن لا أحد سيتذكرها بعد موتها، تقول بما يدمي، وهي على مشارف الموت، أنها لا تريد أن تمضي الآن، رغبتها أن تظل بينهم إلى حين. اجتثها الموت بعنف نرجسي، لم يستوقف شراهته وهن رغبة امرأة عجوز تستمهله بما يماثل حياء الطلب، رهافة الالتماس، وقتا إضافيا حتى ترى الغد يضج بصخب أحفادها، يثبون، يشدون؛ قوته رعناء، تصميمه ثابت، يمضي صوب قتيله بخطم طويل ينفث الشره، يتفجر بحمم القتل، ببجاحته السليطة. حين سافر على عجل إلى مدينته فور علمه بموتها، وجدها دفنت، انتفض ضد سرعة الدفن، لم يقتنع أبدا بوجوبه السريع، كان أثناء سفره يركض لاهثا ، كسيرا، كي يدرك وجهها، يريد رشف سماحته، طبع قبلة على صفحته الوضيئة، النقية، البشوشة، يرغب أن يختزن طعمها بطين شفتيه، طعمها الحسي دوامها فيه، وفاؤه لها، قال. دخل إلى غرفتها، دنا من سريرها الصغير خلا منها، لكن رائحتها تفوح بعد، تفغمه ممزوجة دوما بأعشاب الحناء، بأعواد القرنفل، بخليط مصهور من العرعار والخزامى، ينتبه إلى صررها الصغيرة الموضوعة على جنب وسادتها، عصاها التي كانت تساعدها في أيامها الأخيرة على المشي، حقائبها الصغيرة الموضوعة أسفل السرير ترتب فيها بعناية ثيابها المتضوعة بالنقاوة ، ثم صورتها أعلى سريرها، مثولها الفاره، واقفة باعتداد بقفطانها البديع المصنوع من ثوب الكمخة ، تطالعه بوجهها العفي، الصلب، بعينيها الوسيعتين المحاطتين بسواد الكحل، رمقها بعينين مرتعشتين، مترددتين، كأنه لم يجسر على النظر إليها مباشرة بعد أن ماتت، لكنه سرعان ما انشدّ إليها، تملاها بإقدام، عنفوانها ينتصب ضد موتها، صلابتها قائمة لم تلن، انشرح، هي لم تضعف، قال، لم تتأكسد بفعل كبسة الموت. يستبطن صورتها في عمق عينيه، يتدارك القبلة التي لم يطبع على جبينها، يرتشفها، كما يرتشف رحيق زهرة، وهي زهرة، حينئذ شعر أنه فسح لها بداخله شساعة مترامية لا تحد، أيقن أنها بخلاف توقعها لن ينساها، دليله صورها التي عثر عليها سنوات طويلة بعد ذلك، أليفة بدت له، لم تغم إذن في سبات ذاكرته، حاضرة لا زالت، تبتسم بالانشراح ذاته، تمسح على رأسه الصغير الذي يحلو له وضعه على ركبتيها الممدودتين المسترخيتين من وهن العمر، تخلل بأصابعها الحانية شعره الفتي بوداعة لم تتكرر. * سديم البياض زاد البياض من شعيعه، أغمض عينيه كي يتلافاه، شد شعر رأسه بعنف، الوجوه تتوالى، فجاعة الفقد، حرافته، يشرس أمام صفاقته، يلعن عجرفته، حين يستقوي، حين يصلف، حين يفتك بنشوة العدم بالأجساد العجوزة، الفتية، المرمية أشلاء على الشوارع، تحت طمر المنازل المهدمة، المقصوفة بطوابير القنابل الذكية، تتبارى في اقتناص المخابئ العزلاء، تقلب أحشاءها، تخلطها في عجين الدم والأتربة وأكوام الإسمنت المتقصفة والأحجار المتشظية، على أكوامها تعول عجوز، وجهها الصارخ حطام، عينها الكليلة زائغة بالفجيعة، تستغيت، تشير بلوعة إلى المنزل الذي صار أثرا، إلى أفراد عائلة أبيدوا، فيما الكاميرا تسارع إلى تثبيت عينها النهمة على الجرحى،على جثامين القتلى الممزعة، لا تشغلها الفداحة الملقاة خاما، يشغلها مشهدها، يركض حامل الكاميرا، يبحث عن ألم أوجع، تستوفزه فرادة لقطته، ينتبه إلى جسد ملقى وسط نثار القصف، مثخن بالجرح، الكاميرا تتقدم، تؤطر المشهد، الجريح يرفع أصبعه، ينطق بالشهادة، بما فضل من دبيب حياة في صوته، الكاميرا تدنو أكثر، احتضار in live معروض طازجا، ساخنا، لاهبا للمشاعر، راجا للحواس، يصخب أثناء ذلك بالثرثرات الصامة، بهجيج التعليقات؛ الكاميرا تلح على المشهد، تنوع على زوايا التقاطه، ترسم حدودا لمساحته، تبقيه طوع عينها المروضة، تنخله وفق وصفات تقنية ترهن بها عين المشاهد؛ انتبه فجأة إلى أن المشهد بات يرتج، حدوده تميع، أحجامه تمتد، تكبر، تستطيل، تتسع، فيما الكاميرا تجهد في استيعاب استطالاته، حصر امتداداته، عبثا، المشهد أصبح خاما، دفقا هلاما، يغمر الشاشة، يفيض عن حدودها، يكتسح خارجها، لدهشته يراه يدهم خلوته ، يقفز مرتعبا من قعدته أمام الشاشة، يريد الإفلات منه، الدفق كان عاتيا، جامحا، سرعان ما أدركه، لم يلبث أن غشيه، بعد أن شرق به، في سديم البياض.