هي ليست مغربية.. ولا يمكنها أن تكون مغربية.. أو بصيغة أدق، لا يمكن للمغرب أن يحتمل صوتا مثل صوتها الهادئ، الرخيم، النافذ، الذي يعرف كيف يقود الأفئذة التائهة صوب بر المصالحة مع الذات.. لأننا ننتمي إلى ثقافة لها خصومة مع « البوح »، فهو ربما عندنا قرين بالضعف!!.. ومسيرتها الإذاعية بباريس وبكامل فرنسا (وفي كل بقعة من العالم كانت تصلها أمواج إذاعة فرانس أنتير)، دامت 30 سنة كاملة، كانت تحول فيها ليالي الحيارى، إلى لحظات لحميمية فاتنة، يكون فيها المذياع رفيقا للناس، يؤنس وحدتهم في ليالي السهاد الطويلة. وكم كانت الأنفس ترتاح في نوم عميق بعد أن تستمع لحواراتها مع مستمعيها الذين بلغوا أكثر من 100 ألف متصل على مدى ثلاثة عقود من العمل اليومي المتواصل (من الإثنين إلى الجمعة كل أسبوع ).. إنها « ماشا برينجر » ( Macha Béranger )، واسمها الحقيقي هو « ميشيل ريون »، صاحبة أشهر برنامج إذاعي في كامل أروبا « آلو، ماشا ».. البرنامج الذي انطلق يوم 5 أبريل 1977، وتواصل بلا انقطاع حتى يوم 30 يونيو 2006.. أول مرة سمعت فيها صوتها الرخيم، كان في صيف 1986، كنت لا أزال طالبا، ومثل الكثيرين من جيلي، كنت في رحلة ضمن برنامج لمآوي الشباب بباريس ( ماعادت أجيال اليوم تسافر كما كان الأمر مع جيل الستينات والسبعينات والثمانينات، بسبب إكراه الفيزا، وهذا ربما واحد من أسباب التطرف الآخد بأجيال اليوم مغربيا، لأنهم ما عادوا يحتكون مع الآخر ومع تجارب الأمم والحياة ميدانيا، مما يسمح بتنسيب الحقائق والأحكام تجاه الذات وتجاه الآخر. ).. هكذا، بالصدفة، في وحدة مأوى الشباب بباريس، جاءني صوتها الإذاعي من مذياع مسافرة أسترالية، كانت تجوب أروبا آنذاك منذ 6 أشهر كاملة.. سألت عن صاحبة الصوت، فكان أن عرفتني تلك الشابة التي التقيتها في طريق السفر الشبابي آنذاك، على « ماشا برينجر »،، فأدمنتها. « ألو ماشا »، أصبح واحدا من البرامج الإذاعية التي رافقتني لسنوات، ومع كل ليلة كانت هناك قصص حياة، واعترافات ودموع وضحكات فرح وأنين وحنين،، وكان هناك صدق إنساني رفيع.. كانت أحيانا تصمت « ماشا » ويصمت الصوت المتصل، ويكون الصمت لغة بليغة لثوان، قبل أن تعرف الصحفية تلك كيف تستل الكلمات المناسبة لتبث راحة هائلة في الذات المتصلة.. كانت بصوتها البطئ، الرخيم، بضحكاتها المتحشرجة أحيانا، تصالح المذياع مع دوره التربوي، التواصلي والإنساني. ومعها كانت مهنة الصحافة ترتقي مدارج عالية في السمو والإحترافية، وتحقق فعليا ذلك الدور الذي من أجله وجدت هذه المهنة، وهي الإخبار والتثقيف والترفيه.. كانت مربية، وكانت ذات بيداغوجيا عالية في مصالحة الناس مع ذواتهم. وبذلك كانت نموذجا لوحدها، صعب تكراره بذات الألق والجمال. ورغم توالد العديد من البرامج المشابهة في العديد من المحطات الإذاعية، ظلت « ماشا » هي « ماشا »، لا تعوض، ولا تقلد.. يوم 26 أبريل الماضي، رحلت « ماشا » في صمت بعد صراع مع مرض السرطان، عن سن يناهز 67 سنة. لتنهتي رحلة إبداع إذاعية طويلة، ابتدأت في المسرح، وتواصلت بمشاركتها في العديد من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية ( كانت لها صداقة خاصة مع الكوميدي الفرنسي الكبير «لوي دوفينيس» )، وحين قرر فرديريك شلينر، المدير الجديد لإذاعة فرانس أنتير، أن يضع نقطة النهاية لبرنامجها الإذاعي سنة 2006 وهو في ذروة نجاحه المتواصل، لأنه كان يريد أن يغير من نمطية برامجية رآها مملة، فتح عليه نار النقد والإحتجاج، ونظمت ضده العديد من الوقفات وفتحت عرائض التوقيعات والتضامن المطالبة بالإبقاء على « آلو ماشا ». كان في مقدمة المتضامنين والموقعين كبار فناني وصحفيي وكتاب فرنسا، من آلان دولون النجم السينمائي، حتى ميشيل مافيزولي عالم الإجتماع، مرورا بميشيل بلاتيني لاعب كرة القدم الشهير. ورغم ذلك، رفضت هي أن تعود إلى إذاعة « فرانس أنتير »، والتحقت لسنة واحدة بإذاعة « إ.ف.م. » الباريسية، حيث كانت تقدم برنامجها الجديد « مساء الخير ماشا »، لكن ما انكسر في الخاطر كان قد انكسر.. وبعد شهور قليلة جاء المرض، ثم المقاومة، حتى انطفأت ثلاث سنوات بعد ذلك، وكان رفيقاها في رحلة الوداع الأخير ابناها « جيروم وفريدريك ». هل لي أن أعترف، أن ما ربطني بصوت هذه السيدة الإذاعي ( لم أبحث قط عن صورتها، رغم أنها كانت تمارس التمثيل التلفزي والسينمائي أحيانا، لأن ذلك كان سيشوش على فتنة الصوت وعلى حقي في الخيال )، ليس فقط بيداغوجيتها المهنية الرفيعة، بل أنني سنوات بعد إدماني لبرنامجها الإذاعي بليل، سأكتشف أنها ولدت يوم 22 يوليوز 1941، وهو نفس يوم ميلادي ( لكن ب 23 سنة من الفرق، فهي تكبرني ب 23 سنة بالتمام والكمال، يوما بيوم ).. مع « ماشا » أصبحت مهنة الصحافة إغراء للكثيرين، وكنت واحدا منهم.