في مسرحية محمد حسن الجندي الراهنة «المتنبي في ساحة جامع لفنا»، يحل أبو الطيب المتنبي ضيفا خاصا، على مراكش.. المتنبي راكب الريح على قلق، يحط الرحال هذه المرة في ساحة "جامع لفنا". يلقى الناس هناك، فيتعرفون على شخصه وسيرته، ويرهفون السمع إلى شعره، ويشاركونه شؤونه وشجونه.. يخرج المتنبي من أسوار القصور والحصون والقلاع ومجالس الخاصة ودوائر السلط والمدافعات والمكائد.. إلى الفضاء الرحب، فضاء الطلاقة والذلاقة والانطلاق، الذي لم يفارقه التوق إليه بعد كل انكسار في التواءات الحياة، وانكشاف أن كل لمع ليس سوى وهم سراب.. إذ ذاك يستأنف ترحاله القلق، ذارعا المسافات عبر الأمكنة، عبر الأزمنة، حتى يحط الرحال في ساحة "جامع لفنا" حيث يلتقي بشجرة نسبه: بوالده السّقّاء، وبذوات تصغي إليه دون حسابات، ودون مداورات ومناورات، وحوك مكائد ودس مصائد.. يستدعي محمد حسن الجندي المتنبي إلى ساحة «جامع لفنا» احتفاء به وبالساحة وبمدينة مراكش.. تضيق عن الشاعر، الطائر المحكي، الفضاءات المغلقة، فيُستدعى إلى فضاء مفتوح، فيلبي الدعوة بذات عنفوانه المعهود.. يحضر إلى ساحة "جامع لفنا" مَجَازاً، في زمانها الذي كان.. قبل أن تزحف عليها الكثير من العوادي التي أحالتها إلى فضاء هجين.. وهذه قصة أخرى.. يستحضر الجندي «جامع لفنا» الذاكرة، فينتقي منها بعض العلامات الدالة في تاريخها، الراسخة في وجدان طُرّاقها وفي وجدانه.. فالحالات والشخوص والفرجات المستعارة في هذه المسرحية، هي من العلامات التي غاب معظمها عن الساحة، وبقيت آثارها في مخيال ووجدان من عايشوا طقسها ملازمة أو عبورا.. ومنهم محمد حسن الجندي، الذي يدرك بخبرته المسرحية، ما تتوفر عليه علامات ساحة "جامع لفنا" من أرصدة فرجوية قابلة للاستثمار في فضاء المسرح.. ومن أجل تشخيص بعض تلك العلامات في فضاء استعاري لساحة "جامع لفنا" في زمن توهجها، اختار الجندي المؤشرات الفضائية الدالة على الزمان ذاك. ومن أهمها الواقيات التقليدية، المصنوعة من الخوص، لتنصب في مساحة الخشبة معالم دالة على ذاكرة وطقس، شخصت المسرحية من تفاصيلهما الوفيرة بعض العلامات والأعلام، من حلقات المبسطين والمرفِّهين والرواة والعشابين، والفرق الغنائية الشعبية.. وبعض الصور مما يجري في الساحة من مقالب المبتزين وبائعي الأوهام وخدعهم السارقة للمغلفين.. كما شخصت بعض المردَّدات الشعبية، مفسرة إياها من قِِبَلِ راوٍ عارف، ليدرك مردودها مدلولات إشاراتها والمعاني المستضمرة فيها والمغزى البعيد منها، كمُردّدَة "للاطاطا" التي كانت من المردَّدات الكثيرة في الأوساط الشعبية. ويرتبط تشخيص طقس "جامع لفنا" والاحتفاء بذاكرتها الخصبة، الاحتفاء بلهجة مراكش في تعبيريتها الذلقة المائزة، تعبيرية التوريات والإرساليات اللامزة والتلاعب بالكلمات وحضور البديهة والتقاط المفارقات.. وهي اللهجة التي يحذقها حرفيو مراكش خاصة. وكانت تجد في بعض حلقات "جامع لفنا" مجالا حيويا لتصريفها وتفجير كوامنها. ومحمد حسن الجندي ميال إليها، حريص عليها في تأليفه المسرحي، بإضافات وتلوينات من مرجعيات شفوية، ومحسنات لفظية.. مما يجعل اللغة مساحة تصريف وإضافة، ويجعل العمل المسرحي ذاكرة وحياة مترعة قولا وفعلا.. وفي مقامات اعتماد الشفوي أساسا للتواصل والتفاعل، لا يمكن إلا أن تكون لبلاغته قيمة مخصوصة وحضور لافت، حتى تتجاوز الكلمة حدود وضعية التواصل العادي، إلى ما يحفز وظائف التأثير، والنظر إلى أبعد من ظاهر اللفظ.. إن محمد حسن الجندي حين يحتفي بساحة "جامع لفنا" فإنه يلوذ بذاكرة ويبوح، ضمنا، باعتراف. يلوذ بزمان ومكان لهما في ذاته غور، ويبوح خلال ذلك، بما أتاحته له هذه الساحة الجَمَّاعة من مناهل، وما منحته للناس عبر تاريخها الطويل من إمتاع ومؤانسة، وما خبروا فيها من تجارب زاخرة بما في الحياة من متع ومباذل.. فهي بؤرة لمظاهر الرغبات الإنسانية في تلقائيتها والتوائها، في سلبها وإيجابها، في تناقضها المعقد تعقد الذات والحياة في إسرارهما والإعلان.. لقد دل الجندي في أكثر من عمل فرجوي له، على عميق احتفائه بمدينته مراكش، وعميق علاقته بساحتها الشهيرة، التي ظلت رَحِماَ يستولد منه الأمداد، ويؤوب إليه، كمنزل الحبيب الأول، بعد كل رحيل، إياب من تسكنه مدينته ويسكنها في تنافذ حميم.. والإضافة المائزة في عمله المسرحي الراهن، هي استدعاؤه إلى ساحة "جامع لفنا" المضيافة، قامة شعرية سامقة في تاريخ الأدب العربي والإنساني، هي شخصية المتنبي.. أشارت إليه مراكش فلبى الدعوة، مثقلا بوعثاء الرحيل بعد الرحيل، وفي زَوَّادَتِهِ حصائل حافلة من تواصل المغاربة معه عبر متونه الرصينة وتاريخه المحتدم، تواصلا رائقا شائقا في التقبل والسجال. استدعت مراكش المتنبي فحضر هذه المرة إلى ساحتها في حكاية راوٍ راسخ من رواتها، محيط بتاريخها وأسرارها، واصل بين ثقافة الخاصة وثقافة العامة، عارف كيف يجاسر بينهما في سلاسة، وفي ترافد لم يكن منقطع الصلة من قبل.. يحكي الراوي في ساحة "جامع لفنا" سيرة المتنبي، ويصحح أغاليط متداولات عن أخلاقه ومسلكه وشخصه.. فتنضاف سيرة المتنبي إلى السير والمحكيات التقليدية التي احتضنتها الساحة. ويروي شعره طريا شجيا جياشا، يساور الشغاف ويحرك المواجد.. فتمتد حياة شخصيته وصوت شعره الوارف، بين عموم الناس، متجاوزين حدود الخاصة العارفة إلى فضاء العامة المتعطشة، متواصلين معهما عبر بلاغة المحكي والمروي الشفويين، وعبر حيوية التشخيص المسرحي، الذي يجعلك تحيا اللحظة حية زاخرة.. لقد اعتدنا في الكثير من الأعمال المسرحية، التي استعارت فضاء ساحة "جامع لفنا" للاشتغال المسرحي عليه، ألا نلتقي إلا بالشخصيات والحالات المنتسبة إلى الثقافة الشعبية، أو بمن وما يعتبر من هذه الثقافة، ومسرحية "ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب" للطيب الصديقي، مثال دال على ذلك.. لكننا في مسرحية "المتنبي في ساحة جامع لفنا" نجدنا أمام تجربة مسرحية تحقق إضافة جديدة، بالحضور المسرحي للمتنبي، سيرة وشعرا، في فضاء الساحة، وفي قلب مراكش العميقة، بكل رصيدها التاريخي والحضاري. وبهذا الحضور يلتئم طرفا الثقافة الشعبية العامة، والنخبوية الخاصة، في تكامل متواصل متفاعل، كما كان عليه شأنهما في الماضي.. وإذا كان محمد حسن الجندي في مسرحية سابقة له، قد احتفى بشاعر سائر الذكر، هو شاعر الحمراء، محمد بن إبراهيم، في حياته الملتبسة ذات البعد الدرامي الأكيد.. فها هو يحتفي اليوم بشاعر ما زال يملأ الدنيا ويشغل الناس بشوارده وسيرته، بقلقه وأرقه، اللذين لم يتيحا له أن ينام ملء جفونه!.. التقط الجندي شحنات درامية من كل ذلك، وهو يحتفي مسرحيا بالشاعر في فضاء ساحة "جامع لفنا" في مراكش حاضرةً وعمقا تاريخيا وثقافيا.. فكان لحضور الشاعر، جواب الآفاق، وقع خاص، أكد أن وهجه متأصل من بؤرة دائمة التوقد، وأن المسرح محضن خصيب لصوته السامق الوارف، وأصوات المبدعين المرموقين، حيث يمكن مكاثفة إبداعهم بإبداع المسرح، المفتوحة عوالمه لمحاضنة العلامات ومضاعفتها بلا حدود... { هامش. - معتمد هذه المقالة عرض يوم 6/3/2009 بمسرح دار الثقافة مراكش وهو من أداء مجموعة من مسرحيي مدينة مراكش.