أورفيوس ! أيا أورفيوس ! يا معلّمي ! معلّمي الحقيقي أنت. من سِوَاكَ يفهم معنى مواجهة الموت؟ قبل أن تلتفت إلى من عشقتها لتفقدها أجمل فقدان، تَفَقَّدْ حالي و انظر قليلاً إلى ألمي. (2، 150) * استحوذت عليّ، جسداً و روحاً، صورُ الأموات يكبّلونني بالماضي، ماضيهم، فأتخيلهم لا في هيأتهم راقدين جامدين مسمّرين إلى لحودهم، بل في هيئة أشخاص ذوي أبّهة و مجد أثيريّ. (2، 81) * مثل قشعريرة الموت لاح لي ملاك. فيا أيها الجمال، يا أيها البهاء المنسوج من ألم ملائكي، سنكون رفاق طريقك نحو نشوة الموت. (2، 15) * لطالما انتظرنا و تألمّنا، إلى حدّ أننا تماهينا مع الموت فوق الحدّ. وحدها عودة الموت تضيء وجه الفكر. (2، 156) * إذا حدث لي، في أثناء هذه الرحلة، أن همتُ على وجهي إلى الأبد، فاسألوا أنفسكم من يكون هذا الميتُ لتتجلّى لكم صورةُ قبر فارغ باذخة. قولوا لأنفسكم إن الشعر يتجسد في جسده، و إن هذا الجسد هو جثمان ملاك. (2، 32) * يا أنت ! يا أيها الشاعر المنخطف النشوان ! لا تبحث عن وطنك في غير ملكوت الأموات. الموت ! الموت الذي أتحدث عنه موت أورفيوسي. في أوج حياتك المفتونة، ابحث عن سكرة ذاتك المصعوقة في الكلمات المرصعة بإتقان. غَنِّ مع الموتى الذين ألهموك علّك تعود إلى الأرض لتنعم بغبطة يوم واحد وهمية. (2، 162) * نحن قبل الحياة نكبر في الدفقة السابقة للولادة، ملتقطين رعشة كل ذاكرة، مشرعين البدء الأول على تحوّلات الفكر الدموي، فيُنفخ في الصور تمجيداً لبعث القلب من قبره (2، 33) * أجل ... إنّ لهذا الكتاب دَمَ فَصَادِهِ اللا يتوقف عن السيلان. سأمرّ فوق هذه الأرض يقهرني القلق واليأس، فاخرّ تحت ركام كلمات مسحونة. (2، 163) * بوركتْ شطحةُ المماثل ! الوجدُ هو دوماً بعث لمن يتوهج في الموت. هذه الفكرة الباهرة أمل بالنسبة لمن يولدون من جديد في أنشودة الموت. (2، 40) * المعشوق للعاشق الولهان هو أبداً فكرة خارقة لا تصدّق تسبقها صورة الموت. أنا أتحدث عن المعشوق الذي يحتفل من غير رحمة بمواته الشخصي. (2، 9) * موسيقى ! أيتها الموسيقى ! احمليني بعيداً، بعيداً جداًّ ! لعلّك بالنسبة لروحي التائهة احتفاء أزليّ بثورانٍ نجميٍّ اخترقني ميّتاً ! (2، 94) * لأنني وُلِدْتُ يوم العيد الكبير، فإن اسمي الشخصي يوحي إليّ بشعيرة عريقة تجعل صورة إبراهيم ناحراً ابنه لا تفارق ذهني. (1، 17) * كيف يمكن لك، دون أن ترتعش، أن تكيف قصة حياتك و موتك لتكون سيرة ذاتية شخصية ؟ أ ليس الآخر هو الذي يكشف لك عن قصتك كما لو كانت حدثاً غريباً لا يصدّق ؟ (1، 10) * في مكان ما سأكون إذن، بين أنت و أنا، فرعاً و أصلاً، حواراً بين البحر و طفولتي، مغرماً بهويتي المزدوجة ? بين ثقافتي و الغرب ? دائراً حول نفسي تحت نفس القناع. (1، 192) * لا شيء أخسره. لا شيء أربحه. أمشي في صحراء كفكري شاسعة. فكر الصحراء ! كتابة تضاعف آثارها : لا طريق بعد. لا غاية بعد. تيهانُ شبحٍ. إصابة جسد لا تعوّض. (1، 206) * كثيراً ما نتكلم عن الهوية. لكن لا أحد يتكلم عن الآخر الأجنبي في ذاتنا و عن ذاتنا كآخر ... إن الهوية نسيج من الآثار. و كلما تراكمت الآثار، أمكن لك أن تكتشف نفسك بالنسبة لبنيات هويتك. لذلك، فهي متحولة. * الغرب جزء مني لا يسعني إنكاره إلا في حدود صراعي ضد كلّ أشكال الغرب و الشرق التي تضطهدني أو تخيّب آمالي. (1، 118) * أيها الغرب الجميل ! ماذا كان يسعنا أن نفعل، مسحوقين في أجسادنا، سوى أن نفترع بكارة طبيعتك، أن نقفز على مناطقك المحرّمة و أن نقبض على الحيتان الحمراء الصغيرة المرتعصة في رحمك ؟ (1، 54) * كل لغة تؤزم اللغة الأخرى و تدمرها، فأنتفي كل مرة من ذاتي أصمّ أعمى أبكم. إذا قلتُ رياحين، فإنني أنسى أسماءها بحسب إحدى لُغَتَيَّ. لذلك، يستلبني نسياني المزدوج بعنف من أكثر أناسي و أشيائي حميمية. (2، 88) * الطبيعة حَبَتْكَ بالشيء و ضده، بين كمال أنت و نقصان، ملاك و غول، متحد بذاتك و منفصل عنها، منظور و لامرئي، حقيقيّ و وهميّ، بين السماء و الأرض، تمحو كل مرة تَماثلك و تَمايزك لتظهرهما و تخفيهما على أحسن وجه. لأنك ذو كيان مزدوج «ومع ذلك فهو واحد» وهيئة مزدوجة «و مع ذلك فهي واحدة»، أفلست ابناً مسيخاً للطبيعة ؟ (2، 53 - 54) * المرأة شعاع النور الرباني ليس كيانها أبداً ما تشتهيه الحواسّ هي خالقة بالأحرى لا مخلوقة (2، 111) الخنثى هو هذه الحال الذهولية الافتتانية للكائن، حالٌ في حالِ رجلٍ و امرأةٍ ضمن محو لا نهائي. أجل، فالخنثى هو خطيب سائر النساء و خطيبة سائر الرجال. (2، 52) * سيكون الشذو ثم التعزيم التشنجي ثم الصمت ثم العبور ثم التيهان ثم البرق ثم اللمعان ثم البشارة ثم الألفة ثم الهجرة فالتفسخ فالتحول فانفصال العناصر و الأشكال ثم سيلان جسدك. فيا أيها الولد النجمي ! أيّ أنشودة ستغنّي لتنفكّ العقدة ؟ (2، 18) * من ولادة الآلهة احتفظ الشذو بقربان لا ينسى، فتنة و افتتان لا يخلوان من معجزة نادرة ... و حين إنشادُ الجوقة فتح البيبان الخفية للآخرة، آسِراً إيَّانا في تحليقة خاطفة على عتبة الصحراء، فلا الأرض و لا الجبال يمكن لهما حجزنا خارج الزمان. الموسيقى في جوهرها هي وحدة الزمان اللاتنتهي. (2، 85) * أنت ... يا أكثر الشعراء حمقاً إِذْ تكتب من خلال لغتين، أَخْمِدْ جنونك و أطفئْ هيجانك. لماذا أنت معاند ؟ لماذا تستعير صوتاً مستحيلاً، صوتاً حوشيّاً ؟ إلاّ إذا كنت، في ضلالك المزدوج، قد أَلَمَّتْ بك آلامُ الجسد الأورفيوسي. نعم ! فيا أورفيوس، يا معلّمي الرائع، دَعْ كتاب الدم يسّاقط قطرة تلو قطرة بعد قطرة على كل واحدة من كلماتي حتى ينشّق صدغاي و تتقطع عروقي. (2، 162) * أنت ... يا من تبحث عن الشطح .ابدأْ بالتخلص من فيض ذاتك. فحرارة الخواء هي مبتدأ و منتهى كل معرفة ... من يدري ؟ فقد تعرف شعشعة الخواء و فرحة الشطح الباذخة. (2 ، 144 - 145) * وسطٌ أنا بين لغتين : كلما خطوتُ نحو الوسط، ابتعدتُ عنه. (3 ،11) * اللغة المزدوجة ؟ هي حظّي، هاويتي الشخصية، قدرتي البهية على النسيان. قدرة لا أحس بها، يا للغرابة، من حيث هي نقصان. لعلها بالأحرى أذني الثالثة. (3 ، 11) * أين تنسى لغتي نفسها حين أخاطبكِ بلغتكِ ؟ أين تكون تتكلم في صمت ؟ هي في تلك الأثناء لا تكون أبداً لاغية. حين أحدثكِ، أحس لغتي الأم تنساب بين تيارين : أحدهما صامت (صمت حلقيّ)، و الآخر يدور في الفراغ، منحلاًّ في بلبلة اللسانين. حينئذ، تضيع مني كلماتي، أخلط بعضها ببعض من لغة إلى أخرى. (3، 48 - 49) الآن أفهم كيف أنها، و هي لا تحسّ بلغتي الأم، كانت تتلذّذ بما يتعذر ترجمته، و أنّ ما كنتُ أعيشه معها كان أكثر من مجرد جهل بريء. هذا الازدواج و هذا الانكسار في ذاتي هما ما كان يُسَعّرُ التذاذها و يلهب هوسانها. (3، 70) * لعلّه كان يعشق فيها امرأتين : إحداهما تعيش في لغتهما المشتركة، و الأخرى تعيش في مابين اللغتين. لا يتعلق الأمر بتشابه بينهما، بمواجهة عمودية متوازية بينهما، بل بنوع من القلب، أي تحويل عشق غير قابل للترجمة، عشق ينبغي ترجمته دون هدنة. فما أجمل ما لا يمكن ترجمته ! (3، 26) * أن أومن بعد الآن بانفصال سعيد و بقطيعة مريحة عذبة - هل هو حنين إلى النفي - يؤول بي إلى نكران بلبلة اللغة التي تخطف الجسد من واقعه الشّموس و تعكّر استقلاله بلذّته. معكِ كنت دوما أتلذّذ بين لغتين، إحداهما تفترع الأخرى. (3، 87) أُحِسُّنِي ، مخاطباً إيّاكِ بلغتكِ، أكون أنتِ بالذات من غير أن أكونكِ، ماحياً نفسي في آثاركِ. وأُحِسُّنِي، ذا لسانين، أكون حُرّاً في أن أكون كذلك تماماً لحسابي الشخصي. هي حريةُ سعادةٍ تقصمني ذاتين، لكن لتدرّبني على فكر اللاشيء (3، 11) * تُسْلِمُنِي اللغة إلى كافة الكلمات، بينما تسلمني اللغة المزدوجة إلى انشراخها في ذاتها. فيا للعشق و الغيرة و الكارثة ! (3، 73) * الحياة بدّدت انسجامي. أما اللغة المزدوجة، فدمّرت كل حنين إلى الواحد الأحد.. (3، 94) * أجل ... لقد ضيعتني لغتي الأمّ. الضياع ؟ لكن، ماذا ؟ ألم أكن أتكلم و أكتب بلغتي الأمّ بمنتهى المتعة ؟ و لغتي المزدوجة، ألم تكن حظّي الذي يخلصني من هواجسي ؟ ما أعنف رغبتي في أن أقول ما لا ينقال ! (...) لأنني ابن لغتي الأم، فقدتُ أمي. لأنني ابن لغتي المزدوجة، فقدتُ أبي، سلالتي . ( 3 - 75) * تعلّمتُ لغتك على كرسي المدرسة، لا في ماخور. كنتُ كتابًا ناطقاً يتملص من طروسه لِيُقْدِرَ الآخرين على فهمه و قبوله. أنا إذن نصّ هذا التملص. بل لعلّني أول مجنون يتدلّه بلغته الأم. أن تحوّل لغة إلى لغة أخرى حلمٌ مستحيل، و أنا مغرمٌ بالمستحيل. (3، 35) * متورطاً كنتُ في مغامرة خارقة. كنتُ، إذا حدث لي أن استبدلتُ كلمة بأخرى، أشعر لا باقتراف خطيئة أو بخرق قانون، بل بالتلفظ بكلامين متزامنين : أحدهما يفي بما عليه، و الآخر قصيّ و تائه و منقلب على نفسه رغم حضوره الكلي. (3، 35) * يلزمني، مغترباً، أن أتعلق بكل ما هو غريب فوق هذه الأرض و تحتها. اللغة لا مالك لها. مالكها هو لا أحد، و أنا لا أعرف شيئاً عن لا أحد. أَ لَمْ أكبر، ضمن لغتي الأم، مثل طفل مُتَبنََّىً ؟ فَمِنْ تَبَنٍّ إلى تَبَنٍّ آخر، كان يتخيل لديّ أنني أولد من اللغة نفسها. (3، 11) * لتزدوجْ كل لغة بلغة أخرى ! فما أروع أن يكون للجسد لسان آخر مختلف، و أن يكون الكلام و الكتابة على شفير ما لا يمكن التعبير عنه ! (3،11) * الحب فَنُّ الترميق : فهو بين الوهم و انجلائه، بين اللذة و العذاب. (4،11) * أتصور ولادتي و انفتاحي على العالم بسرعة تفصلني أكثر فأكثر عن ماضيّ الشخصي بحجبه وانفكاكي عن مسقط رأسي و جذوره القطيعية التي تكاد أن تكون راكدة على ضفاف شاطئ أوقيانوسي. (4، 10) * أنا الذي أخاطبكم الآن، ماذا عساي أن أكون لأرافقكم في هذا الترحال من غير أن تتعرفوا عليّ ؟ من أكون لأستقبلكم في قلب السماء من غير أن أكشف عن هويتي، هويتي الحقيقية ؟ (4، 12) * أنا بالتتابع ذاتي بنفسي و آخر سواي، ثم ذاتي بنفسي فآخر سواي مرة أخرى، بين السرعة و الكلام، بين السرعة و الصمت. هي مواقف متقلبة في التوازن بين اللغتين ... أنا الذي خلف الزجاجة، أرقب شفافية الكلمات، من نفسي إلى ذاتي، من الآخر إلى نفسي، من ذاتي إليها. (4، 49) * لا تتوار في كلامك الشخصي لا تتلاش في كلام الآخرين و اختبرْ دم فكرك (5، 11) * كل الأنام يعشقون الهوية كل الأنام يبحثون عن الأصل أما أنا فأعلّم المعرفة اليتيمة.( 5 ،14 ) * أنت عربيّاً موسوم بالأحمر و الأصفر أنت شرقيّاً موشوم بالأحمر و الأبيض فإذا كل الشعوب بالأحمر تلوّنت فماذا سيتبقّى من قوس قزح ؟ (5،23) * يسقط الذكر سبع مرّات وينهض مرّات ثمان و الأنثى تهب نفسها نصفاً و تلعب بنصفها الآخر (5،47) * اجعلْ عملك حقيقة مترنحة و اجعلْ حقيقتك نقداً دائماً (5 ،30) * أعلّمك الاختلاف أبد الأبدين و أزيد في قيثارك وتراً رجراج أقول لك نشوتك إشارة تلو إشارة و أعلّمك اللذة غير الآثمة (5، 42) * لن يمهلك الزمن لتستريح فالإشارات التي تخدعك هي مجرد نشوة خالصة و الجمال الذي يقسمك هو مجرد مرآة مزيفة فلتبتعد عنها إذن قبل أن تكسّرك ابتعد عن أصلك عن طفولتك صحراء هي المرآة المترحلة صحراء هو اسمك الشخصي (5، 72) * كن رجلاً كن امرأةً كن خنثى فكل واحد يحوي الآخرين (5، 46) * حَرِّكْ جسدك في لذة الآخر و في رقصتكما انتشِ بأنسام النجم (5، 33) * ... و هكذا تكلّم رولان بارث عن عبد الكبير الخطيبي ( ما أنا مَدِينٌ به للخطيبي ) نحن نهتم، الخطيبي و أنا ،بنفس الأشياء، صوراً و إشاراتٍ و آثاراً و حروفاً و سماتٍ. لذلك، و لأنّ الخطيبي يحوّل هذه الأشكال من موقعها كما أتصورها، و لأنه يغرّبني عن نفسي و ينقلني بعيداً إلى أرضه هو كما لو كانت أقصى حدّ في ذاتي، فإنه يعلّمني أشياء جديدة و يرجّ معرفتي رجّاً. يحظى الخطيبي براهنية عجيبة. إنه طرف فاعل و حاسم في هذه المراجعة التي أنا اليوم بصدد إجرائها على مشروعي السيميولوجي. بالفعل، يزداد انتباهي يوماً بعد يوم إلى أن هذا المشروع بقي أسيراً لمقولات، «الكلّيّ» » أو «العامّ» التي تنظم، منذ أرسطو، كل منهج في الغرب. ذلك أنني، حيث كنت أفحص بنية الأدلة و الإشارات، كنت أصادر ببراءة على أن هذه البنية تؤكد ما هو عامّ و شموليّ و تثبت مبدأ هوية لم تكن في العمق، و بناءً على المتن الذي استأثر دائماً باهتمامي، سوى وحدة أو هوية الإنسان «الثقافي» في بلدي. و هذا بالذات ما يفعله الخطيبي لفائدة مشروعه الشخصي، حيث يسائل أيضاً الإشارات و الأدلة التي تكيّف هوية شعبه، شعب يختلف عن شعبي أنا الذي لم يعد « شعبيّاً »، و الذي أصبحت هويته مجرد شيء صالح ليُعرض في «متحف التقاليد الشعبية»، الموجود مقرّه إلى جانب غابة بولونيا بباريس، غير بعيد عن حديقة قديمة للحيوانات، بما هما (أي المتحف والحديقة) مستودع للنوادر و الغرائب. إن ما أفحصه هو الإنسان «الثقافي» الفرنسي أيّاً كان موقعه في التراتبية الاجتماعية، ذاك الذي كيفته الموجات المتعاقبة للفكر العقلاني و الديمقراطية و تقنيات التواصل الجماهيري. أما الخطيبي، فإنّ ما يفحصه هو إنسان «شعبيّ» تماماً، لا يتكلم إلاّ بأدلته و إشاراته الخاصة به، إنسان تخونه باقي الأدلة و الإشارات الأخرى، سواء أكانت تلك التي يستعملها علماء الفلكلور أم تلك التي ينساها المثقفون بكل بساطة. فأصالة الخطيبي، ضمن أصله الإثني الخاص، هي إذن أصالة باهرة ساطعة، و صوته هو في غاية التفرد، و من ثم فهو صوت وحيد ومتوحد، لأن ما يقترحه هو، على نحو مفارق، البحث في آن واحد عن المماثل و المغاير في «أنا» شعبه : مماثلة لها من الصفاء و التوهج ما يجعله يقرأها من حيث هي مغايرة و اختلاف. بهذا المعنى، يستطيع غربيّ (مثلي) أن يتعلم من الخطيبي أشياء كثيرة. لا يمكن لنا أن نفعل ما يفعله، لأن أساسنا اللغوي مختلف عن أساسه. بيد أن بإمكاننا أن نتعلم منه مثلاً درساً في الاستقلال. صحيح أننا وأعون بانغلاقنا الإيديولوجي، و أنّ بعضنا يبحثون عن فكرة ما عن الاختلاف بمساءلتهم «الآخر» المطلق، أي الشرق (الزين، الطاو، البوذية ...). لكنّ ما يجب علينا أن نتعلمه ليس هو أن نستظهر نموذجاً جاهزاً ما (فاللغة تفصلنا عنه حتماً)، بل هو أن نبتدع لغة «متغايرة المنطق»، أي ربيكة من الاختلافات من شأن اختلاطها أن يخلخل الكثافة المزعجة، الموغلة تاريخيّاً في القدم، للأنا الغربية. لهذا السبب، نحاول أن نكون «خلاّطين»، فنستعير من هنا و هناك بقايا ثقافات أخرى مغايرة (قليلاً من الزين و قليلاً من الطاو ...)، و أن نشوّش هذه الهوية الغربية التي غالباً ما تثقل كاهلنا مثل معطف سميك (ليس دائما، لأنّ للمعطف ثمنه و ترفه). لأجل ذلك، لا يمكن لنا أن نلتفت إلى ما هو «شعبيّ» فينا لأننا لم نعد نمتلك منه شيئاً. غير أن بوسعنا أن ننفتح على ما هو «شعبي» في آخرين سوانا، أي أن « ننزاح عن المركز» (un décentrement) كما يقال اليوم. ها هنا بالذات تقدم لنا كتب الخطيبي سلسلة دقيقة و قوية من الإشارات المعلّلة و غير القابلة للاختزال : و هو ما يسعفنا على إدراك « الآخر» انطلاقاً ممّا هو «نحن» بنفسنا .