يثير سؤال التربية والديمقراطية جملة مركبة من الأسئلة التي تستدعي بطبيعتها توخي الحذر من السقوط في فخ الأجوبة السطحية التي قد تكون صالحة للاستهلاك الظرفي أو السطحي، دون أن تسهم بعمق في بناء مشروع المجتمع الديمقراطي وفي بناء دولة الحق والقانون. فما مفهوم التربية؟ وما مفهوم الديمقراطية؟ هل نحن ديمقراطيون إزاء أطفالنا؟ وما معنى أن نكون ديمقراطيين معهم؟ وكيف يمكن أن نكون كذلك؟ وإذا كان الجواب / الأجوبة بالسلب فما هو السر الكامن وراء ذلك؟ إن سؤال التربية والديمقراطية يحيلنا منهجيا الى أسئلة تتعلق بمدى تبلوروعي ثقافي بهذه المفاهيم، وبمدى تشبعنا بقيم حقوق الإنسان بشكل عام وحقوق الطفل بشكل خاص، لأن العلاقة السائدة بين التربية والديمقراطية في صيغها وأبعادها ومخارجها هي في المحصلة ترجمة لمدى سيادة مبادئ وقيم حقوق الإنسان / الطفل داخل المجتمع، ويمكن إثارة هذا الموضوع من خلال ثلاثة أبعاد مركزية. البعد السوسيو ثقافي: وهو مرتبط بالجوانب الذهنية والمعرفية والفكرية والقيمية، فهل يتمثل الأفراد والجماعات داخل المجتمع مفاهيم التربية والديمقراطية وحقوق الانسان؟ و كيف يتمثلونها؟ هل يتعلق الأمر بتمثلات مختلفة ومنسجمة أم بتمثلات متعددة متناقضة ومتصارعة؟ كيف تنعكس هذه التمثلات على مستوى الخطاب / الخطابات المتداولة وعلى مستوى السلوكات السائدة داخل المجتمع؟ ماهي المؤشرات أو المعايير التي يمكن الاستناد إليها قصد قياس نوع وحجم هذا الإدراك وهذه التمثلات الذهنية والفكرية وهذه الممارسات؟ وعلى سبيل المثال هل ندرك نحن الراشدون الذين نمارس أشكالا من الوصاية الفردية والمؤسساتية على الأطفال أنهم ولدوا لزمان غير زماننا؟ هل ندرك أن لهم الحق في أن تكون لهم أفكارهم وأحلامهم الخاصة بهم؟ هل نحن مدركون، وأكثر من ذلك، هل نحن مقتنعون بأن لهم الحق في اختيار ما يناسبهم؟ و كيف يمكن أن ندبر معهم كل اختلاف محتمل في هذا السياق؟ هل نملك نحن (الكبار) تربية - ثقافة تؤهلنا لتدبير هذا النوع من الاختلاف؟ هل نحن بصدد ممارسة سلطة وصاية أم نحن بصدد ممارسة تسلط باسم الوصاية؟ فالفرق شاسع جدا بين السلطة وبين التسلط. هل تلقينا في أوساطنا الأسرية والتعليمية والجمعوية والحزبية تنشئة اجتماعية تؤهلنا لامتلاك فكر ديمقراطي أم أننا خضعنا لتنشئة جعلتنا نحمل مضاضات للديمقراطية؟ البعد الحقوقي / القانوني : ويقاس من خلال ما تتضمنه منظومة النصوص القانونية من مقتضيات تؤصل وتؤسس لعلاقة سليمة بين التربية والديقراطية، عبر إرساء حصانة تربوية لفائدة الأطفال تجاه كل الممارسات التي تشكل انتهاكا لحقوق الطفل، من هنا يصبح الحق في التربية محورا تتقاطع عنده مختلف الأجوبة الممكنة حول سؤال التربية والديمقراطية، إذ أن الحق في التربية مفهوم مكثف يكاد يختزل مختلف مضامين الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، والتي تشكل أرقى ما وصل إليه الفكر الحقوقي الانساني التربوي، فكيف يتم وضع التشريعات ذات الصلة بالحق في التربية؟ هل بطريقة يجعلها تولد ميتة أم بطريقة تضمن قابليتها للحياة؟ لأن التشريع البيداغوي - إن صح هذا التعبير - هو الذي يستحضر كل العوائق الموضوعية والمقاومات الذاتية من جهة، و يعمل على سن المساطر الكفيلة بتذليل الصعوبات المحتملة في هذا الباب من جهة أخرى. البعد المؤسساتي: ويشكل هذا البعد الثالث تتويجا لمسلسل الانخراط المجتمعي في التأسيس لعلاقة سلسلة موضوعية وبناءة بين التربية والديمقراطية، لأن المقاربة الحقوقية لا تقبل أن نروج لخطاب ينتصر للديمقراطية بشكل عام وينتصر لثقافة حقوق الطفل بشكل خاص مقابل وجود ممارسات مناهضة للديمقراطية ومنتهكة لقيم حقوق الانسان / الطفل، كما أن هذه المقاربة لا تحتمل أن نعمل على ملاءمة تشريعاتنا الوطنية مع مفاهيم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا دون أن نمتلك الآليات التي تجعل هذه المفاهيم الحقوقية أمرا معاشا على أرض الواقع. إن تأكيدنا على هذا البعد يأتي من كونه يترجم مدى ارتقاء المجتمع ككل الى مأسسة مفاهيم الحق في التربية والديمقراطية و حقوق الانسان، وفق ما يخلق ويضمن الانسجام بين الخطابات الرائجة وبين الممارسات السائدة، وفق ما يجعل القوانين المعتمدة امرا واقعا لا تمثل أشكال مقاومتها إلا استثناء وليس قاعدة، فالديمقراطية تبنى في العقول وفي النفوس، قبل أن تشرع كقوانين أو تشيد كمؤسسات. ويصبح البعد المؤسساتي متوفرا في هذا السياق عندما تنخرط مختلف مؤسسات الدولة وكذا مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية بوعي واقتناع ودون مقاومة صريحة أو مقنعة في التعاطي في قضايا الطفولة بشكل عام بحس تربوي ديمقراطي يترجم الإيمان بمفهوم الحق في التربية والإيمان بقيم الاختلاف بين الأفراد والجماعات والأجيال مع ما يتطلبه ذلك من تنازلات مادية ومعنوية وتعبئة للوسائل والشروط الثقافية والقانونية والمادية الكفيلة بجعل هذه القيم تحيا وتنمو ربيعا للوطن. ختاما وجب التأكيد على أن الديمقراطية لا تقبل التجزيء ولا تقبل الانتقائية، لأنها بالمعنى الشكسبيري، إما أن تكون أولا تكون، إن التحايل على الديمقراطية خاصة في الحقل التربوي يمثل أسوأ وأباس أشكال الإساءة إليها، فإما أن نكون ديمقراطيين أو لا نكون، ذلك هو السؤال؟