نشرت المجلة الفرنسية ذات التخصص في شؤون الادب والنقد ماغازين ليتيرير ع. 375 ابريل 1999، مجموعة شهادات لكتاب مغاربة [ الطاهر بن جلون - عبد الكبير الخطيبي - ادمون عمران المالح - محمد شكري - محمد برادة - بنسالم حميش - محمد بنيس - رجاء بنشمسي]، تحدثوا خلالها عن تجاربهم الادبية على ضوء ذلك الزخم من القضايا والاشكالات التي تتحقق بداخلها الكتابة الأدبية المغربية بصفة عامة، نذكر منها اساسا: - قضية الازدواج اللغوي وبالتالي الثقافي. - قضية العلاقة بالواقع وبالفضاء العام تحديدا وطبيعة الحيز المخصص لهموم الذات في بعدها الفردي، مع ما تفرزه هذه الأخيرة من أسئلة خاصة - قضية التخييل في الكتابة الأدبية وما تثيره من إشكالات على مستوى التلقي. مجموعة قضايا تقف عندها هذه النصوص/الشهادات المفعمة بالجرأة والعمل كدعوة ضمنية من هؤلاء الكتاب للقراء إلى نهج قراءة ناموسها «العود على البدء» كشرط ضروري للنفاذ الى الطروس القابعة تحت هذه الشهادات. أود الاشارة في البداية إلى أنني سأتحدث في هذا الحيز الضيق باسمي. كانت اللغة الفرنسية بالنسبة لي وأنا طفل، لغة صامتة منحصرة في القراءة وأداء بعض الفروض المدرسية. أقول لغة صامتة لا ميتة كما هو حال اللغتين اللاتينية والاغريقية بالنسبة لعدد كبير من فرنسيي جيلي. كانت واجبا ومادة تعليمية وزهدا يحاصرنا داخل دير للخشوع والشك والتيه. لم نكن نتحدث بها إلى أي أحد. هذا اللاأحد كان يرتدي قناعا وكنت أجاوره هناك في المدرسة وفي الشارع. الفرنسية كلام صمت فرض علينا. وكان علي أن أتأقلم معه. أي أن أتعلم الاصغاء للصمت ولتمتماته وانفجاراته وهبوطاته وفتنته وإغواءاته. كانت هذه اللغة الصامتة تمد يدها لي خارج كل قصور أو احتباس في القراءة. فهل قوة الصمت هاته هي التي جعلتني أتعلم الكتابة، أي أن أحسن الحفاظ على المسافة الضرورية بيني وبين الكلمات داخل اللغة وأن أمسكها وفق امتدادها الفضائي والايمائي على الدفتر والكراسة والسبورة. لقد فرض علينا خلال تلك الفترة أن نقرأ اللامقروء، رموزا يتعذر فكها. واعتقد أن الشغف بهذا اللامقروء والتعلق به خلف أثرا قويا في ذاكرة هذا الطفل. أثرا سمعيا ذا بعد عاطفي. ومع مرور الوقت استطاع هذا الصمت أن يشق طريقه إلي وأن يأسرني. كنت أتساءل عندئذ من هذا الذي سيصغي إلي عندما أتحدث وبأية أذن. ما دام أن أذني قد ألفت شريعة الصمت? فقد تعلمت الخرس والانطواء أو على الاقل التأمل اللين الذي ينضج داخل الكلمات الفظة والممقوتة. تأمل زج بي رغم قوة ريح البحر (اسكن بمحاذاة الساحل) داخل إيقاعات الخارج المطلق. كلغة صامتة ونصف ميتة منفتحة على حركات الطبيعة وطقسها المزاجي، شرعت اللغة الفرنسية، أحد الايام، في التحدث من خلالي، ومادام أننا لا نقرأ مثل الكتاب، فقد كان علي أن أبدأ كل شيء من جديد. لم يكن الأمر، بهذا المعنى، متعلقا بإحلال لغة الام بل بلغة كتابة محل ازدواجية لغوية لا تطاق. إذ كان علي أن أتكلم في لغة وأكتب في أخرى. وبفعل الهوة القائمة بين اللغات السامية ونظيراتها اللاتينية فقد كنت أعيش داخل صراع ضار. كانت تلك هويتي كناسخ وكراو وككاتب سيرة ذاتية. لقد تعرفت بعمق عن الاختلافات القائمة بين اللغات وكنت أعيش حالة من مناجاة الذات كما يحلو للبعض أن يقول. كما بدأت أميز في موقع وآخر داخل نفس اللغة: كنت صاحب صوت يستطيع الانكتاب دون أن يتحدث أو أن يتكلم بصوت منخفض. طبع مضاعف، سلسلة من الكلمات المختومة على لغة في طور التكوين، لم يكن بإمكاني تحديد درجة المقروئية أو اللامقروئية التي وصلت إليها حتى تمكنت من أن أحسس جسدي بالإيقاع والغناء والشعر. ومن ذلك، فما من شيء إلا وكان يشجعني على أن أظل غير مقروء. أي أن أظل أجنبيا سريا يبحر ليلا بين لغتين. كنا نقول دائما إن وضوح اللغة الفرنسية مفخرة وطنية بحيث يصبح غير قابل للقراء كل ما يشوش على مبدأ الهوية الوطنية. إني لست بصدد امتداح اللامقروء حتى أجعل البعض يقرأ هذه الشهادة كحقيقة مطلقة، بل إني اعتقد أنا الشاعر ملارميه قد دلنا بما فيه الكفاية على الطريق الكفيلة ببلوغ ترجمة صامتة: «أن نترجم اللغة الفرنسية إلى الفرنسية».