انتقل إلى جوار ربه الفنان الملحن وعازف الناي الشهير حميد بن ابراهيم، صباح الثلاثاء 27 من يناير الحزين، بعد مرض عضال لازمه في السنوات الأخيرة، عانى منه الشيء الكثير جسديا، واستنزف منه ما استنزف ماديا دون مبالاة أو رعاية لا من وزارة الثقافة ولا من الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة التي كان أحد موظفيها - ولا من النقابتين المتصارعتين ولا من ائتلاف الفنانين المبشرين بالفتح المبين في التغطية الصحية، ولا هم يحزنون، علما بأن هذه الأطراف جميعها تعلم بتفاصيل مرض الفقيد حتى، هكذا تُرك للإهمال وحيدا يصارع طواحين المرض، وهو الذي أعطى للأغنية المغربية الكثير لتصل الى أرقى تجلياتها. الفقيد من مواليد الرباط في بداية الأربعينيات، اضطرته الظروف العائلية إبان الاستعمار الى ترك المدرسة للعمل مبكرا لينوب عن الوالد في التكفل بالعائلة الذي تكرر استفزاز المستعمر له وسجنه لكونه كان من أفراد المقاومة، تحمل مشاق العمل وهو يافعا وفي نفس الوقت أخذ يتردد على أحد المعاهد (تجاوزا) الصغيرة بديور الجامع لتعلم العزف على الناي على يد ثلة من الأساتذة. وسرعان ما تفتقت عبقريته في العزف والبراعة في الأداء، الشيء الذي حفزه للتقدم لمباراة اختيار الجوق الوطني الذي أشرف عليه الدكتور المهدي المنجرة - مدير الإذاعة آنذاك - ليكون من الناجحين القلائل بتفوق وعمره لا يتجاوز 17 ربيعا، وبذلك كان أصغر أفراد الجوق الوطني. رافق الأستاذ أحمد البيضاوي، رئيس الجوق الوطني الذي يتكون من أمهر العازفين كصلاح الشرقي وعمر الطنطاوي، وبناني سميرس عازف الكمان وآخرين.. ليساهم الى جانبهم بنصيب وافر في نسج صناعة نغمات الأغنية المغربية في فترات أرقى تألقها. ولإنعاش الذاكرة نستحضر قصائد «البردة» لأحمد البيضاوي و«القمر الأحمر» و«راحلة» لكل من الملحن الكبير عامر والشاعر المبدع عبد الرفيع جواهري. كما لا ننسى مساهمته، من موقع الملحن، في حمل هم الارتقاء بالأغنية المغربية، فلحن قصيدة «رموش» لعبد الهادي بلخياط وعمره لا يتجاوز 23 سنة، تلتها أغان وقصائد كثيرة نذكر منها أغنية «صوت الفلاح» لعبد المنعم الجامعي التي كان الراديو والتلفزة بقناتها الوحيدة يحرصان على بثها قبل وبعد كل خطاب ملكي تقول كلمات الأغنية: «ألف سلام، ألف تحية، من فلاح فقير من قرية بدوية..». كما تعامل أيضا مع أصوات جديدة نسائية ورجالية منها الصوت الطربي لسمية قيصر التي أدت له قصيدة «أتراك» وهي من شعر الأمير عبد الله الفيصل مبدع قصيدتي «ثورة الشك» و«من أجل عينيك» لسيدة الطرب العربي، غنى له أيضا البشير عبدو قصيدة جميلة لا تذاع مع الأسف لا في الراديو ولا في القناتين بعنوان «إليك عني».. هذا التراكم، هذا الريبيرتوار المتنوع في العزف والتلحين، جعل صيت فناننا الفقيد يتجاوز الإطار الوطني الى الفضاء العربي الرحب ليصبح واحدا من أمهر عازفي الناي في العالم العربي له مكانته الخاصة الى جانب كل من عبد الحميد مشعل عازف ناي عبد الوهاب أيام زمان «الليل نجاشي» ومحمد السيد عازف الناي في فرقة أم كلثوم ومحمود رفعت عازف ناي الفرقة الماسية ورئيسها الذي خلف المايسترو أحمد فؤاد حسن. كل هؤلاء تجمعهم بالفقيد علاقة صداقة وود واحترام تصل ببعضهم الى درجة الحميمية، كما كان الشأن ذاته مع ملحنين كبار من طينة محمد الموجي واحد من صناع أمجاد عبد الحليم، كما كان له تقدير خاص على مستوى المملكة من عاهلها الراحل الذي كان يستمع له أحيانا في العزف المنفرد. للفقيد أذن موسيقية في الجلسات مع الأصدقاء بالمقهى أو غيره، تركز على التقاط نغمات الناي الذي شغف به. فيأخذه الحنين الى شرح أنواع الناي والفرق بينه وبين الكاولا. لذلك أحب كثيرا قصيدة «سلو كؤوس الطلا» لأم كلثوم، لاستهلالها الموسيقي الذي يبدأ بالناي وكذا قصيدة «النيل» لأن آخر مقاطع شعرها يختتم بالناي أيضا. وبالناي أيضا نستحضر عزفا للفقيد في قصيدة شهيرة من أجمل ما طرز بها الإبداع الأغنية المغربية وهي قصيدة «راحلة» وبالضبط في الأداء الرائع لمحمد الحياني لمقطع: وتبكي.. وتبكى العصافير الداليا. فلنتذكر نغمات ذاك الناي الحزين ذات مساء في «راحلة» والفقيد يرحل عنا، فليشهق الناي أنينا ويكف العين عن تغريده لتبكي العصافير. وداعا أخي عبد الحميد والمجد للزمن الجميل!