في طموح إلى كسر التنميطات المسبقة والقراءات المبسطة والمسلّمات المسطحة، التي تعيد إنتاج كليشيهات تعميمية في كلّ حال، يحاول كتاب جديد بعنوان «الحجاب: نساء كاتبات حول تاريخه، إغوائه، وسياسته»، صدر مؤخراً عن مطبعة جامعة كاليفورنيا، تفكيك التمثيلات العديدة التي اكتنفت وتكتنف صورة الحجاب، في مستويات ثقافية وسيكولوجية وأنثروبولوجية وسياسية مختلفة. جنيفر هيث، محرّرة الكتاب، تعتمد على شهادات 19 امرأة من الشرق والغرب على حدّ سواء، لأنها في المنهج تنطلق من حقيقة أنّ الحجاب ليس صناعة إسلامية، وشواهده ماثلة في اليهودية مثل المسيحية، وكذلك في عصور ما قبل التوحيد، وفي الأسطورة والخرافة... وهكذا فإنّ مهجة قحف (الشاعرة الأمريكية السورية الأصل، أستاذة الأدب المقارن في جامعة أركانسو، والتي تضع غطاء الرأس كما تجب الإشارة) تتناول موضوع الحجاب من منظور غير مألوف، وبالغ الأهمية في الواقع: نعمة ارتداء الحجاب، وصدمة نزعه بالإكراه، لأسباب تصنعها السلطة السياسية (وبالتالي تخلق ردّ الفعل المضادّ: إرتداء الحجاب تحدياً ونكاية)؛ أو السلطة العائلية التي قد لا تكون ضدّ الحجاب ضمناً، ولكنها تتقي شرّ تداعياته السياسية. وفي فصول أخرى تقرأ باربره غولدمان كاريل «شيفرة» الثياب عند المرأة اليهودية من طائفة الحاسيديم، وتبحث لورين لافونتين في مكانة الحجاب كما عكستها الأناجيل، وتعيد شيرين مالك تأويل الحجب السبعة في رقصة سالومي الشهيرة لقاء رأس يوحنا المعمدان، وأمّا هيث نفسها فإنها تنبش في تاريخ حجاب... الرجل! ثمة، بالطبع، موضوعات أخرى مثيرة، ودسمة تماماً، في كتاب من طراز غير عادي، في أزمنة لا تمنح مفهوم الحجاب نظرة عادية، ولا تتعامل بحدّ أدنى من الموضوعية العلمية مع جوانبه المتعددة المعقدة. وأخال أنّ عمل الباحثة التركية ميدا ينيوغلو «استيهامات كولونيالية: نحو قراءة نسوية للإستشراق»، والذي صدر سنة 1998 وسبق لي أن راجعته على صفحات «القدس العربي» في حينه، هو الرائد إلى هذه القراءات النسوية في مسألة شائكة وإشكالية وراهنة. وينيوغلو ترى أنّ حجاب المرأة المسلمة ظلّ طويلاً موضوعاً بارزاً في الفانتازيا الكولونيالية الغربية من جهة، وشعاراً للتحرير الزائف الذي انزلقت إليه الإيديويولوجيا القوموية في المجتمعات ما بعد الكولونيالية من جهة أخرى. كذلك تستقصي الإفتتان الغربي بالمرأة الشرقية المحجّبة كما يعكسه أدب الرحلات والنصوص الأدبية والأنثروبولوجية الأخرى، وتتوصّل إلى الخلاصة السياسية الثقافية التالية: إنّ الرغبة الغربية الجامحة في «اختراق» السطح المحجّب لهذا «الآخَر» المستعمَر، لا يمكن أن تكون أقلّ من عنصر تكويني في هوس الإخضاع الذي ينقلب إليه المستعمِر. هذه الخلاصة تذكّر بما كان فرانز فانون قد توصّل إليه حول حجاب المرأة الجزائرية بالذات، وليس مفاجئاً بالتالي أن ينيوغلو تعتمد مثالَيْن تطبيقيين في دراسة إشكالية الحجاب: المرأة المحجبة في الجزائر، والمرأة المحجبة في تركيا. مقال فانون الممتاز، حول الحجاب كرمز وأوالية ثقافية، يبدأ من وصف المحاولات الأوروبية لتحديث الجزائر عن طريق تحسين أوضاع المرأة، فيرى فيها شكلاً مقنّعاً من العدوانية: الرغبة في نزع الحجاب تعني الرغبة في ممارسة الإغتصاب، ولكن الإغتصاب ذاته ليس سوى تشخيص تفصيلي للرغبة في إخضاع المجتمع بأسره. وهكذا يصبح ارتداء الحجاب عند المرأة الجزائرية رمزاً مركزياً للمقاومة، وسبيلاً لصون التراث. ولكنّ تجربة فانون كطبيب نفسي، يعالج الجلاد والضحية في آن معاً، أتاحت له أن يسجّل الملاحظات الصاعقة التالية: «في حلم الأوروبي لا تبدأ عملية اغتصاب المرأة الجزائرية إلا بعد نزع الحجاب. وفي الأحلام ذات المحتوى الإيروسي، والتي تنطوي على لقاء الأوروبي بامرأة جزائرية، كانت السمات النوعية لعلاقة الأوروبي بالمجتمع المستعمَر تفرض نفسها دائماً. لا مكان هنا للإجتياح التدريجي، ولا للمكاشفات المشتركة، وثمة امتلاك، واغتصاب، ونصف جريمة. وإنّ حالة الفزع التي تصيب المرأة الجزائرية هي العنصر الإضافي الذي يشدّد على هذه الوحشية، وهذه السادية، ولهذا يحدث دائماً في حلم الأوروبي أن تصرخ المرأة الضحية، وأن تصارع مثل أنثى الأيل، حتى تخور قواها في نهاية الأمر». ينيوغلو تقتبس الفقرة السابقة تحديداً، لكي تبرهن أنّ الذات الغربية لم تذهب إلى استعمار الشعوب مسلحة بعقلانية العلوم السياسية والاقتصادية والأنثروبولوجية والعسكرية وحدها، بل ذهبت أيضاً مدفوعة بنوع جامح من رغبة الإنتهاك والإغتصاب والإختراق، واستولدت في ذلك عشرات الإستيهامات الجنسية الصرفة التي كان حجاب المرأة أكثرها خصوبة وقدرة على توليد نزوعات الغزو والفتح والقهر والإخضاع.