ظهر مفهوم "العولمة" أول ما ظهر في مجال الاقتصاد للتعبير عن ظاهرة آخذة في التفشي في العقود الأخيرة، ظاهرة اتساع مجال، أو فضاء، الإنتاج والتجارة ليشمل السوق العالمية بأجمعها. وينظر بعض الباحثين إلى هذه الظاهرة بوصفها من مميزات المرحلة الراهنة من تطور الرأسمالية، بمعنى أن تاريخها يبدأ فقط مع طغيان الصبغة المالية في الرأسمالية. هذا بينما يرى آخرون أن الأمر يتعلق بتتويج لمسلسل من التطور والتوسع الاقتصادي يرجع منطلقه إلى القرن الخامس عشر، إلى زمن النهضة الأوروبية الحديثة. ويتمثل هذا التتويج فيما وفَّرته التكنولوجيا الحديثة في مجال وسائل الاتصال والإعلام والإشهار -كما في وسائل قولبة المنتوجات- من إمكانية خلق سوق عالمية واحدة حقيقية تعمل على توفير نفس المنتوجات والمصنوعات في كل مكان وبأسعار متقاربة، وبالتالي توحيد الاستهلاك وخلق عادات استهلاكية على نطاق عالمي. هذه العملية، عملية "العولمة" بهذا المعنى، يقودها فاعلون اقتصاديون من نوع جديد. لقد كان المهيمنون على الاقتصاد الحديث، منذ النهضة الأوروبية إلى أواسط هذا القرن (العشرين)، هم أساساً مالكو رؤوس الأموال من تجار وصناعيين ومديرين، وقد كان نشاطهم محدوداً بحدود الدولة القومية التي ينتمون إليها. أما خارج تلك الحدود فلقد كانت الدولة نفسها تتولى نيابة عنهم أو بواسطتهم التعامل التجاري مع "الخارج". وبعبارة أخرى كان الاقتصاد محكوماً بمنطق الدولة القومية، منطق "الداخل" و"الخارج". أما اليوم، فإن ما يميز العولمة هو أن الفاعلية الاقتصادية فيها تقوم بها المقاولات والمجموعات المالية والصناعية الحرة -مع مساعدة دولها- وذلك عبر شركات ومؤسسات متعددة الجنسية. والغاية التي تجري إليها هي القفز على حدود "الداخل" و"الخارج" والسيطرة بالتالي على المجال الاقتصادي والمالي عالمياً... وبما أن عملية التنافس والاندماج التي تحكم هذا النوع من النشاط الاقتصادي تعمل على التركيز والتقليص من عدد الفاعلين أو "اللاعبين" فإن النتيجة الحتمية هي تركز الثروة العالمية في أيدي أقلية من "المحظوظين". وفي هذا المجال يقدر الباحثون المختصون أن ما لا يزيد عن 15 شبكة عالمية مندمجة بهذا القدر أو ذاك هي التي تشكل الفاعل الحقيقي في مجال السيطرة على السوق العالمية، وأن أصحاب هذه الشبكة هم "السادة الفعليون" للعالم الجديد، عالم "العولمة". وإذن فإن أول مظاهر العولمة هو، من هذه الزاوية، تركيز النشاط الاقتصادي على الصعيد العالمي في يد مجموعات قليلة العدد، وبالتالي تهميش الباقي أو إقصاؤه بالمرة. ومن هنا ظاهرة "التفاوت" الملازمة لظاهرة التركيز التي هي من هذا النوع، التفاوت بين الدول، والتفاوت داخل الدولة الواحدة. ومن الأمثلة التي يوردها المختصون في هذا المجال لتوضيح هذه الظاهرة نقتبس ما يلي: إن خمس دول، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، تتوزع فيما بينها (عام 1995) 172 شركة من أصل 200 من أكبر الشركات العالمية. وهذه الشركات المئتان العملاقة هي التي تسيطر عملياً على الاقتصاد العالمي، وهي ماضية في إحكام سيطرتها عليه، إذ ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي المدة ما بين 1983-1992 بوتائر سريعة جداً: أربع مرات في مجال الإنتاج وثلاث مرات في مجال المبادلات العالمية. وفي تقرير للأمم المتحدة (في التاريخ المذكور) أن 358 شخصاً من كبار الأثرياء في العالم يساوي حجمُ مصادر ثروتهم النقدية حجمَ المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاثمائة مليون شخص من فقراء العالم. وبعبارة أخرى إن عشرين في المئة من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم ثمانين في المئة من الإنتاج المحلي الخام على الصعيد العالمي، وأن الغنى والثروة ارتفعا بنسبة ستين في المئة في الولاياتالمتحدةالأمريكية بين عامي 1975-1995، غير أن المستفيدين من هذا الارتفاع الكبير في الغنى والثروة لا يتجاوز عددهم نسبة واحد في المئة من الشعب الأميركي. والنتيجة الاجتماعية لهذا التركيز المفرط للثروة على الصعيد العالمي هي تعميق الهوة بين الدول، وبين شرائح المجتمع الواحد، ليس فقط بين الطبقات، بل أيضاً بين الفئات داخل الطبقة الواحدة وبين الفصائل والأفراد داخل الفئة الواحدة. فقد يحصل، وهذا حاصل بكثرة، أن يساوي دخل فردين أو ثلاثة من رؤساء مؤسسة بنكية مثلًا ما يعادل دخل نصف العاملين في تلك المؤسسة من الموظفين الصغار والمتوسطين. وإذا كانت هذه الظاهرة، ظاهرة اتساع الفوارق بهذه الصورة قد اعتبرت من قبلُ خاصية من خاصيات "التخلف" الذي تعاني منه ما تسمى ب"البلدان النامية"، فإن الظاهرة نفسها بدأت تظهر وبحدة في البلدان المتقدمة نفسها وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الأوروبية. ففي الولاياتالمتحدة الأميركية لاحظ باحث أمريكي أن الطبقة المتوسطة الصغيرة آخذة في التدهور إلى وضعية تجعل منها طبقة منتمية إلى "العالم الثالث"، كما أن الأغنياء الكبار هناك يشبهون -بالمقارنة مع الطبقة المتوسطة تلك- أغنياء العالم الثالث. وهذا النوع من التفاوت الكبير، بين الأغنياء والفقراء، هو ما يميز "التخلف" الذي توصم به بلدان العالم الثالث إن لم يكن هو أحد أسبابه... وهذا ما ينزلق إليه الوضع في الولاياتالمتحدة الأميركية، حسب رأي الباحث المذكور. ونفس الظاهرة تستشري اليوم (1996)، وبسرعة، في أوروبا حيث يفرض نظام العولمة عليها، بما يقتضيه من منافسة حادة، التخفيض من التعويضات والخدمات الاجتماعية. وهذا تدبير سيعمق الفوارق الاجتماعية بصورة رهيبة، وهي فوارق قائمة أصلاً وبشكل واسع. أما في العالم العربي والعالم الثالث عموماً فمثل هذه الفوارق تتكرس وتتعمق يوماً بعد يوم وينتظر أن تزداد حدة وخطورة -فتنعكس بشكل مباشر على الاستقرار والأمن- مع سياسة "الخوصصة" Privatisation التي تنتهجها، مختارة أو مضطرة، دول هذه البلدان، والتي من نتائجها الآنية تسريح أعداد هائلة من العمال الذين يكتظ بهم القطاع العام الذي كان يستعمل للتخفيف من البطالة ووقعها على بنية المجتمع... وإذن فمن النتائج المباشرة للعولمة تعميم الفقر، وهو نتيجة حتمية لتعميق التفاوت. إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي "إنتاج أكثر ما يمكن من السلع بأقل ما يمكن من المأجورين". والمشكلة التي تستأثر باهتمام الباحثين والمختصين في هذا المجال يمكن صياغتها كما يلي: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب الشغل فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي -ويتوقف على- تخفيض عدد مناصب الشغل. إن بعض القطاعات في مجال الإلكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجاً في العالم، لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من العمال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة والخوصصة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتماً إلى أزمات سياسية.