لقد ظل الحديث المؤسِس للسياحة المغربية منذ توافد الأفواج الأولى للسياح الأجانب على المغرب، في بداية القرن الماضي، محصورا داخل الدائرة المادية الصرفة، حيث لا يتناول الفعل السياحي عادة إلا باعتباره حركة اقتصادية مبنية على معياري الربح والخسارة، وباعتباره محركا للتنمية الاجتماعية للمواطن المغربي. ثوابت الرهان على السياحة دأبت الحكومات المتعاقبة، منذ فجر الاستقلال، على المراهنة على القطاع السياحي لتحقيق التطور المجتمعي المنشود. فبالرغم من اختلاف وضعه أو(رتبته) داخل سلمية المخططات الاقتصادية التي سنتها الدولة، فقد اعتبر القطاع أداة مركزية لتحقيق التوازنات المالية وجلب العملة الصعبة وتشجيع الاستثمار الأجنبي. وفي السنوات الأخيرة غدت السياحة رهان جميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والجمعويين، مما أثمر الاتفاق الإطار (2010 2001) الذي وقعته الحكومة مع أرباب العمل والمقاولات. وأضحت جل المشاريع والبرامج مؤطرة برهان 10 ملايين سائح في أفق نهاية العقد الأول من هذا القرن. كل هذا جعل الرؤية السياحية، التي تبلورت عند مهنيي ومنظري القطاع، موجهة نحو المعطى الاقتصادي من خلال النظر إلى المنتوج السياحي باعتباره بضاعة تجارية تخضع لقانون العرض والطلب، في حين غُيِبَ المعطى الحضاري والثقافي للأمة المغربية، الذي يعد رهان وجودها ومقوم ذاكرتها. وحتى إن استعمل هذا المعطى فمن أجل خدمة المنطق السوقي ليس إلا. ترى كيف يمكننا الموافقة بين معطيات الواقع الاقتصادي التي تفرض نفسها داخل الميدان وأسس الهوية الحضارية للشعب المغربي؟ و هل هناك أصلا خلل في العلاقة بين الجانبين؟ تغريب سياحي يبدو أن حديثنا عن الهوية والحضارة والذاكرة والثقافة في ميدان معلق تعلقا لزوميا بالسوق أمرا مستغربا إلى حد كبير. ففي السياق الذي جندت كل الطاقات التقنية والمالية، وحتى السياسية، لرهان ,2010 يعد الكلام عن انضباط هذا الميدان لأسس الهوية أمرا غير ذي جدوى. لكن الواقع أن طرح هذا الإشكال يراد منه مراجعة المسار السياحي من وجهة مخالفة لما هو مشاع داخل المجال. مراجعة تحمل هموم الذاكرة القومية وخصوصيات الأمة المغربية، التي تتقاطع عند حدودها مقومات العقيدة واللغة والتاريخ والموقع الجغرافي. وهذا لا ينافي الرغبة الجامحة في النهوض بالسياحة المغربية، لكن دون أن يخل ذلك بخصوصية الإنسان المغربي وكينونته التي تفسر تميزه عن باقي الأمم والشعوب. فمن خلال مراجعة عرضية لواقع الفعل السياحي نلاحظ أنه أمثل نموذج عن التغريب الفكري والسلوكي الذي عانت وتعاني منه الأمة على جميع المستويات الحضارية والتربوية واللغوية. حيث يحس المشتغل داخل الميدان بغربة وعزلة شعورية تنم عن غياب أي مقدار للتعلق بين المواطن وبين ميدان، كل ما فيه مؤسس على السوق وضروراته وإشكالاته، وذلك يتمظهر في صور ثلاثة: التغريب الحضاري: لعل أهم ما يجلب السائح إلى موطن معين ويحدد اختياره لوجهة ما، هو الرغبة في الاطلاع على ما يختزنه بلد الاستقبال من خاصيات حضارية وثقافية تغني رصيده المعرفي. لذا كان الهدف الثقافي أحد أهم أهداف الحركة السياحية على الصعيدين المحلي والعالمي. ويكفينا مثالا على ذلك، ما تشهده المدن التاريخية المغربية من إقبال ملحوظ من طرف الزوار الأجانب، حتى أمكننا الجزم بأن أساس ظهور السياحة المغربية هو زيارة المآثر وعلامات الذاكرة المغربية. لكن الملاحظ أنه بالرغم من هذه الحقيقة الساطعة نجد أن الفكرة الثاوية وراء الفعل السياحي مؤسسة على أن يكون المنتوج المقترح، لا يحمل صبغة مغربية أصيلة. فبدعوى توفير الجو الملائم للسائح بكل متطلباته وعناصره يتم التخلي عن جوهر الأصالة المغربية ممثلا في حدود الشريعة وعادات المجتمع. ويبدو ذلك في مستويين اثنين: مستوى التقديم: حيث تقدم السلعة السياحية وفق رغبات الزائر وذوقه الذي يختلف، في غالب الأحيان، عن ذوق وواقع المواطن المغربي. وهكذا فما يتركه السائح وراءه في بلده يجده بنفس الخاصيات والظروف داخل بلد الاستقبال، من مشروبات و مأكولات و مأوى.. حتى يغدو من الصعوبة أو الاستحالة التمييز بين الواقعين. وإذا حضرت بعض النماذج التراثية فإن حضورها لا يكون أساسيا أو جوهريا، كما أن الرقابة الخلقية والشرعية لا تكون حاضرة في هذا المجال، أي أن الميدان السياحي خارج عن حدود الهوية منتوجا وتقديما. مستوى التنشيط: يعد التنشيط أهم عناصر الفعل السياحي، بل إنه الركن المميز للفضاء السياحي لوجهة معينة والذي يزايلها عن باقي الوجهات الأخرى. ويبدو التغريب واضحا في هذا المجال من خلال المواد المقترحة من طرف مهنيي القطاع سواء كان التنشيط ثقافيا ( مهرجانات، مواسم، متاحف...) أو استجماميا (مقاهي، نوادي...)، أو تجاريا (أسواق، مركبات تجارية...) أو غيرها، حيث يركز أرباب المقاولات السياحية على تنشيط فضاءاتهم بمختلف الأشكال الفنية والثقافية دون أدنى استحضار للرقابة الشرعية أو الذاتية للشعب المغربي. ولنا في ما تشهده شواطئنا ونوادينا خير دليل على الانحلال الخلقي الغير موافق لأدنى منطق ذاتي، وإنما هو محاولة للحذو على منوال الآخر الذي يقولب واقعنا وفق نزواته ورغباته. وإذا نظرنا إلى المسألة من وجهة نظر أخرى وجدنا أن الذاكرة تحضر على شكل صورة فولكلورية ممسوخة ومسلوبة من جوهرها الأصيل، مما يؤدي حتما إلى ضياعها وفقدانها لكل ما يزايلها عن النماذج الراهنة المُغَرَبَة. فهل هذه ضريبة العولمة الثقافية التي مهدت لها السياحة؟ تغريب لغوي: من الثابت أن للغة الضاد مكانة هامة داخل البناء النظري المنظم للإدارة المغربية. حيث تزخر النصوص التشريعية بالعديد من الفصول والبنود المؤكدة على أهمية لغة الضاد كلغة هوية و تواصل على الصعيدين الشعبي والمؤسساتي. والدستور، الوثيقة الأساسية للدولة، يقر أن لغة المغرب الرسمية هي العربية، كما أن العديد من المراسيم والمقررات التنظيمية قد منحتها وضع لغة التعامل الأولى داخل الإدارة. زيادة على هذا نجد لها حضورا متميزا في جل أشكال التخاطب الإعلامي والسياسي، بحيث تحظى بأهمية متوارثة داخل منابر الصحافة والإذاعة، دون أن نغفل كذا وضعها داخل النقاشات السياسية والحزبية. تهميش اللغة العربية لكننا في القطاع السياحي نجد واقعا لغويا آخر، من أهم سماته هي استبعاد العربية من التداول المجالي والمهني، اعتقادا من الدوائر الوصية بعجز لغة الصحراء والقوافل عن مسايرة عالم السوق والتقنيات والإنتاج وتحنيطها في النقاشات التاريخية، و يتجلى ذلك في مستويين اثنين: مستوى التكوين السياحي، حيث تغيب اللغة العربية في العملية التعليمية، وينحصر حضورها في بعض الأمور التقنية. مستوى السلوك الميداني: عند ولوج باب أي مؤسسة فندقية أو سياحية نلاحظ أن اللغة المستعملة في التداول المهني تكون عادة هي اللغة الفرنسية. ويبدأ الأمر من المستندات التي يملأها الزبون وصولا إلى النقاشات التنظيرية في الملتقيات والندوات والمؤتمرات بين مسؤولي القطاع السياحي. حيث تغيب العربية بشكل شبه مطلق، وتحضر لغة الآخر، سواء كان الحضور أجانب أو مغاربة فقط. تغريب تربوي: يتجلى في ارتباط العملية التكوينية وتعلقها بالسوق ومعاييره المتجددة. لذا تتغير العملية التربوية وفقا لمتطلبات سوق العمل، وتظهر شعب مهنية وفق حاجيات المؤسسات الفندقية. وإذا كان هذا الوضع له مظاهر إيجابية تتعلق بامتصاص البطالة وضمان الشغل للخريجين، فإنه يحمل سلبيات ترتبط بغياب أي معيار خلقي أو تربوي في العملية بأكملها. فكلنا نعرف وضع السوق الاقتصادي في عالم اليوم، وما يطبعه من مساوئ ومآسي خلقية ناتجة عن طغيان النزعة المادية الصرف وعولمة الأخلاق الغربية. مما يعني أن ارتباط التكوين بالسوق بهذه الصورة سيفرغ التربية من جدواها البيداغوجي، ويجعلها مجرد قناة لتفريخ اليد العاملة. وانطلاقا من هذه المظاهر الثلاثة، يمكن القول بأن الفعل السياحي المغربي مُغَرَب إلى أبعد الحدود. بحيث يغيب أي تأطير حضاري له، ويكون الفاعل المؤثر فيه هو السوق وضروراته المادية والأخلاقية. المزاوجة بين السياحة والهوية إذن يا ترى كيف يمكننا الخروج من فخ هذا الواقع؟ وهل يمكن الموازنة بين السياحة كحركة اقتصادية، وبين هوية الشعب المغربي التي ينبغي أن تظل معيار الفعل والذاكرة؟ قد لا يختلف اثنان في أهمية السياحة باعتبارها فعلا اقتصاديا هاما لا يمكن الاستغناء عنه في عالم اليوم، بعد أن غدت صناعة لها قواعدها وضوابطها الإنتاجية والسلوكية. لكن الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار أن هذه الظاهرة هي إنتاج غربي في أصل وجوده، برز مع الثورة الصناعية وبداية تنظيم وقت العمل وبروز ما أصبح يسمى بالوقت الثالث أو العطل السنوية والأسبوعية، وكل محاولة لممارسته ينبغي أن تخضع لقواعد معينة عديدة. ولعل أهم هذه القواعد هي المحافظة على ضوابط البيئة الجديدة، أي أن الاستفادة من السياحة لابد أن يكون وفق رؤية شاملة وواضحة لحدود الوظيفة ومغزى الوجود أصلا. إذ الملاحظ أن مثل هذه التساؤلات لم تثر في أذهان المختصين، ولذا ستبدو غريبة وغير ذات جدوى، لأن الأمر انسياق مع التوجه العالمي ومنافسة اقتصادية وحسب. لكن الباحث الذي يؤرقه هم الذاكرة والمستقبل، ويعتبر هوية الشعب المغربي هي ضمان وجوده وتميزه الحضاري، لن يقبل بواقع مفروض لا يحمي خصوصية المكان والزمان لأن الاستيلاب الذي يميز السياحة المغربية سيؤدي حتما إلى زوال خصائص الذات، وتعويضها بنماذج مغربة وفق منطق العولمة الاقتصادية والثقافية. وباجتهاد بسيط يمكن أن نقدم الفعل السياحي في ثوب مغربي أصيل دون المساس بمقومات الهوية أو ضوابط الشرع، لأن الزائر عندما يأتي إلى بلدنا، فإن الذي يجلبه بشكل أساسي، ليست عناصر الإيواء أو التنشيط.. نظرا لتماثل العرض في العديد من المواقع السياحية، ولكن الذي يحدد اختياره هو الاطلاع على خصوصيات وطننا وحضارتنا التي بلغت مسامعه. لذا فالأولى أن نقدم له هذه الحضارة والهوية كما هي. فؤاد بوعلي أستاذ بالمعهد السياحي بالسعيدية